حقاً إنها الثوابت والمبادئ والمعتقدات
د. عبد اللطيف عمران
يشير المخاض العسير الذي تمرّ به الآن ولادة الدولة الوطنية الجديدة في تونس ومصر..، الى بروز تحولات نوعية سيتعامل معها المشروع العربي، والفكر القومي برؤية واقعية.
فلا بد أن البعد الجماهيري والوطني في هذا التحالف الاحتجاجي بين أوسع الأطياف في المجتمع، ولاسيما جيل الشباب، سيفرز متغيرات جديدة تستدعي تضافر كافة الجهود لبناء الدولة الوطنية، بناء راسخاً ينطلق من الاتصال الوثيق بنبض الشارع، وبصدق الإحساس بقضايا الشعب والأمة.
وسيلقى هذا البناء -ولاشك- تحديات عديدة، ومخاطر تقليدية، ومستجدة، لأن بناء الدولة الوطنية العربية سيتمرد على أكبر تحدّيين أولهما: التدخل الأجنبي بمظاهره السياسية والثقافية والاقتصادية. وثانيهما: السياسات الصهيو-أمريكية.
وهذا ما يفسّر خوف الغرب وقلقه من اتساع الساحة الشعبية والرسمية أمام السياسات المقاومة والممانعة لمشاريعه في المنطقة. ولهذا بادرت الإدارة الأمريكية في الآونة الأخيرة الى إعلان سلسلة من الآراء والتوجهات المتبعثرة والمضلِّلة، تصدر فيها عن اضطراب، وعجز عن تفسير حقيقي لما يجري. فهي تريد إصلاحاً وعدالة وديمقراطية، مثلاً في لبنان ومصر، وفق ازدواجية معايير تجاه الحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني، ولكنها لا تريد لهذا أن يكون نابعاً من الداخل، أو من المصلحة الوطنية والعربية. وهي تريد مجتمعاً أهلياً حيوياً على هواها، لكنها تحافظ على الجمود السياسي حين يضمن مصالحها.
ومع اضطراب الرؤية يتم الحديث عن «عاصفة هوجاء» ستعصف بالشرق الأوسط. وفي هذا جميعه لا يغيب أثر العامل الإسرائيلي في نظرة الإدارة الأمريكية الى القضايا العربية، والإقليمية والدولية أيضاً، وخاصة حرصها على استمرار نهج كامب ديفيد.
ومن الواضح أن التغيير القادم ليس في مصلحة إسرائيل، وأن شباب الأمة لن يكون بمنأى عن إدراك سلبية الخطاب الغربي تجاه قضاياه، هذا الخطاب المراوغ الذي ندرك جميعاً أثره الثقافي والنفسي، وهو ينطلق من استراتيجية فيها كثير من العبث، والاستهتار بالمصالح والقيم الوطنية، ولاسيما حين فعل فعله السلبي في الإساءة الى مبادئ وثوابت شعبنا ومعتقداته الوطنية والقومية. وبما لا تتوافر الجرأة على توظيفه في مخاطبة شعوب الغرب.
لقد عملت استراتيجية هذا الخطاب على طرح ملتبس لتشجيع مفهومات الاعتدال والاندماج والتكيّف، انطلاقاً من تحويل وجهة الصراع الحقيقي في المنطقة من الخطر الصهيوني الى الخطر الإيراني. ومن تكريس اللبس بين الإرهاب وحركات المقاومة الوطنية. ومن تحويل بعض الجهود الرسمية العربية الى حراسة لمصالح إسرائيل. وإلى الاقتصاص من المقاومة ثقافة ونهجاً. ولذلك تحضر اليوم بقوة المبادئ والمعتقدات، ولا تسقط، وإنما يسقط التحالف الامبريالي الصهيوني ومؤيدوه.
إنه مشهد جديد حقاً بمظاهره وبنيته، ينطلق التحالف فيه من ثقافة جديدة بين أطياف التوجهات القومية والإسلامية والليبرالية واليسارية، يجمعها هم واحد ذو أبعاد تحررية وطنية عربية.
لكن من المهم أيضاً أن تؤخذ بالحسبان مخاطر غياب الأحزاب السياسية وتوجهاتها المبدئية الواضحة في هذا المشهد، لأن بروز الفرد المستقل، وتوزّع الوعي الجمعي، قد يشتت الجهود والمطالب، ويؤخر الاستقرار والبناء المنشود.
وهنا تظهر أهمية الارتباط الوثيق بمصالح الشعب وبمعتقداته، لأن الناس -وكما أكد الرئيس الأسد- لا يعيشون فقط على المصالح، بل على المعتقدات أيضاً، وخاصة أجيال الشباب الذين خاطبهم منذ سنوات، مبيّناً «أن ما تتعرض له الأمة العربية في السنوات الأخيرة أمر في غاية الخطورة، لأنه يستهدف البنية المعرفية والنفسية والمعنوية للإنسان العربي، في إطار حرب إعلامية وثقافية ونفسية تتركّز على أجيالنا الشابة بصفة خاصة، بهدف فصلهم عن هويتهم وتراثهم.. لكن الصمود والتحدي تراث وطني ينتقل من جيل الى آخر».