المتغيّر والثابت في المنطقة
د. عبد اللطيف عمران
تشهد المنطقة الآن أحداثاً لم تنجلِ أسبابها ودوافعها بعد، فلا يمكن لأحد الادعاء بأنه يملك تفسيراً حقيقياً لما يجري فيها، فهل هي فعل ثوري أم نزوع إصلاحي، وهل تقوم على دوافع سياسية منظّمة أم على احتجاجات مطلبية لأجيال وشرائح تتشكل حديثاً، وهل توافرت لهذه الأحداث شروط قيام الثورة، وشروط نجاحها، وهل هي نابعة من بنية المجتمع أم على صلة بالخارج، وهل سينتهي الأمر الى قيام سلطات جديدة، أو أنظمة رسمية قادرة على التجاوب -نسبياً- مع حركة الجماهير الجديدة؟.
هذه تساؤلات مشروعة، وسيأتي وقت تظهر فيه الإجابة عليها، لأن المتغيرات جاءت سريعة ومفاجئة ومربكة، ولم تنطلق من أفق نظري مسبق، ولا من إيديولوجيات واضحة، أو من أحزاب سياسية منظّمة، وقد يكمن هنا وجه الإشكال فيها.
فقد ساعد على تسارع المتغيرات وتشعّبها عوامل عديدة منها ما تتيحه وسائل الاتصال الحديثة بين الشباب العربي المتطلّع، وما تثيره هذه الوسائل من تركيز على المستويات النفسية والاجتماعية والمرجعية الفكرية، والهوية والانتماء، والشخصية الوطنية والعربية، والتحدي الحضاري، وتعثّر المشروع العروبي، وضعف مؤسسات العمل العربي المشترك. في وقت لم تعد تهتم فيه الأجيال بالسياسات وبالنظريات المعلنة قدر اهتمامها بالإدارة وبالتنمية والتطور والوعي.
كما ساعد على ذلك فشل المجتمع الدولي، وزيادة التدخل الخارجي، وازدواجية المعايير في السياسات الغربية تجاه حل قضية الصراع الأساسية في المنطقة، ما انتج قناعة راسخة عند الأجيال، على اختلاف أنظمتها، بأنه لا حرية ولا حقوق ولا استقرار ولا تقدم مع استمرار احتلال الأرض العربية، وانتهاك المقدسات والحرمات، ومصادرة الحقوق والإرادة.
إضافة الى ذلك فقد ثبت فشل التدخل الأجنبي، لانحيازه الى مصالح المستوطنين في المنطقة لا أبنائها الأصليين، ما أدى الى انحسار نفوذ الغرب بسبب عجزه عن تحقيق حل عادل للقضية الفلسطينية، وإلى بروز نفوذ آسيوي مقبول في المنطقة، فأسهم هذا في تعرية السياسة الصهيوأمريكية، وقدّم متغيّراً جديداً عند كافة الأطياف يقوم على الإيمان بالبعد التحرري للمقاومة الوطنية، وللاحتجاج الشعبي، باعتبارهما يؤسسان لحركة تحرر عربية جديدة ترتبط بالشخصية الوطنية والهوية العربية، وتستدعي أهمية حضور رمز هذه الشخصية المقاوم لكافة أشكال الغزو والضغوط والتهديد بالحصار والعزل، القادر على الثبات في معترك الأحداث، والمؤمن بمصالح الشعب، وبحقوق الأمة وقضاياها.
ومع هذه المتغيرات بقي ثابتاً -حتى الآن- المشروع الصهيوني الاستيطاني المرتبط بدعم أمريكي ظالم، وغير مشروع أخلاقياً ولا قانونياً، وكذلك الضرب بقرارات الشرعية الدولية عرض الحائط، مع التمسك بإطالة أمد المفاوضات، وعرقلة قيام سلام حقيقي تغيب معه العوامل التي تهدد أمن المنطقة واستقرارها وتطورها، بحيث يظن البعض أن أي المتغيرات لن تعصف بأسس المشروع الصهيوني، وتقتلع جذوره الغريبة والخبيثة.
ومن الواضح في هذا المجال أن لا رجعة الى الخلف في القضايا المصيرية الوطنية والقومية، فالمتغيرات ستكون في صالح الأمة، وستبقى الأرض والحقوق ثوابت لذلك تعيش إسرائيل، ومعها آخرون، قلقاً وحذراً وخوفاً ينطلق من شعورها الحقيقي بالغربة، وبتاريخ ملفّق وظالم، ويزيد ذلك اليوم سطوع الشخصية الذاتية العربية القادرة على الانتصار على مختلف التحديات، لأنها تحمل همّاً ووعياً شعبياً حقيقياً غير مرتبط بأجندات خارجية، يستحيل معه نجاح محاولات دمج إسرائيل في واقع المنطقة ومستقبلها.
وقد برز منذ سنوات قليلة متغير إيجابي على المستوى الشعبي والرسمي في المنطقة -بقيت إسرائيل غريبة فيه وذات إشكالية- تم العمل خلاله على بناء تكامل إقليمي مبني على تطلعات شعبية، ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية وسياسية ترسم مصالح مشتركة بهدف تطوير علاقات التعاون والصداقة والاستقرار، لمواجهة العدوان والاحتلال والتوتر.
ونهضت سورية بدور محوري في هذا التكامل الذي يقوم في جوهره على أننا «نحن أبناء المنطقة، ونحن من يحدد قضاياها ومستقبلها» وعلى أن «شعوب المنطقة تريد الإصلاح بقدر رفضها الإملاءات الخارجية».
هذا جميعه، المتغيّر والثابت فيه، يستدعي حضور المشروع القومي العربي وتجديده، وتعاوناً وتكاملاً إقليمياً متعدّد الجوانب، وهو ما أدركته سورية في مرحلة مبكرة، وكانت سباقة على ترسيخ أسسه، ما يجعلها اليوم قادرة على التفاعل مع هذه المتغيرات إيجابياً، فما يجري يثبت وعيها لتطلعات الجماهير العربية، وإدراكها الحاجة الى تلازم عملية التحرر الداخلي والخارجي معاً.