نحو صياغة سياسات جــديدة في المنطقــة
د. عبد اللطيف عمران
لم تتضح بعد الصيغ السياسية المقبلة في المنطقة، ولم يُعرف من سيكون حاملها الاجتماعي والسلطوي، فما يزال المشهد الاحتجاجي مستمراً ومتنوعاً، مرناً قابلاً لمزيد من الاجتهاد والترقب والحذر. لارتباطه بغياب الحوار بين جماهير المحتجين والسلطات، وبين العرب أنفسهم، ولضعف المؤسسات الديمقراطية، ومؤسسات العمل العربي المشترك، ولأسباب عديدة أهمها تعثّر المشروع الوطني والقومي فيما مضى، وضعف المنظمة الدولية والمجتمع الدولي، والتنكر لقرارات الشرعية الدولية، ما أجج عوامل التوتر والانقسام والاقتتال.
لذلك تنتاب مشاعر القلق جميع الأطراف المحلية والإقليمية والدولية، فقد كانت الاحتجاجات الشعبية مفاجئة وسريعة وقوية وواسعة أيضاً، فلم يفسح أمامها، ولا معها، الحوار الداخلي والذاتي الكافي واللازم، وكذلك الشأن مع بنى الأنظمة التي سرعان ما تصدعت وفقدت مقوماتها وحواملها. وأدى هذا الى ضحايا جسام في الأرواح والإمكانات المعنوية والمادية، ما يجعل القادم مرهقاً ومكلفاً.
والغرب قلق الآن وهو يفكر بمآل تشجيعه للقوى «المعتدلة»، وبالنفط، وبسوق الاستهلاك، وبطرق المواصلات والإمداد، وبالهجرة من الجنوب الى الشمال، وبالتعاون لمكافحة ما يسمى بالتطرف والإرهاب، ولواقع إسرائيل ومستقبلها، وهو لا يعرف ما ستستقر عليه الأوضاع تجاه هذه المسائل، فهل يمكنه زرع صيغ سياسية جديدة، أو بنى سلطوية قادرة على التعامل مع تطلعاته، لأنه الآن أمام مراجعة ذاتية، لاشك أنها مريرة، وهو ويعيش لحظات محاسبة قاسية، تجلّت في اعترافات رئيس الوزراء البريطاني في الكويت قبل أسبوع بأن الولايات المتحدة وبريطانيا أسهمتا في عدم استقرار الشرق الأوسط بدعمهما لأنظمة سلطوية، ولم تبذلا مساعي كبيرة لدفع عملية إصلاح ديمقراطي حقيقي، وهذا ما أثبتته الانتفاضات الشعبية.
والعرب كذلك أمام مفترق طرق حقيقي، فمع الانتصار المدوي لحركة الجماهير، ومع مشروعية الاحتفال بالنتائج، والانطلاق من أهمية ثورة الشعب -فشرف الوثبة أن تُرضي العلى- وليس من الضروري أن يكون الانتصار التام حليفاً، فالأهم امتلاك القدرة على الفعل والتغيير، فهذا دليل ضمير حي، ووعي وقدرة، ما يبشّر بمستقبل حر وكريم تنتفي معه عوامل الخوف، والاستسلام، وتحضر فيه قوة الإرادة على التحرر الداخلي والخارجي، فجميع المحتجين يتطلعون الى قضايا رئيسية ثلاث مترابطة: القدس – الاستيطان – تحرير الأرض والإرادة. وهي مقترنة بالهم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
مع هذا الانتصار تحضر الحاجة الى أفقٍ نظريٍ واضح، وبُعد سياسي يؤطّر الحركة الجماهيرية، ليتحدد مسار الوعي والالتزام، حتى لا يسهل الانقضاض على منجزات الشعب ومصالحه، وقضايا الوطن والأمة.
هذه السياسات الجديدة المرتقبة بصيغها أو توجهاتها تدعو الى النظر فيما يمكن أن يواجه الحركة الشعبية من مخاطر، وأهمها الرهان على الانقسامات السياسية والطائفية والإثنية والطبقية، ومواجهة المواطنين بعضهم بعضاً، إضافة الى التدخل الخارجي والتدويل.
فليس كافياً الانقضاض على السلطات الحاكمة لحل المشكلة الاجتماعية أو السياسية، فهذا الحل يتطلب وعياً سياسياً وتنظيمياً مسبقاً، وقضايا وخطوات واضحة متفق عليها في أدنى حدود الاتفاق، وألّا يُترك ذلك للزمن، فمخاطر الثورة المضادة معروفة نظرياً وعملياً، وهي ليست مستحيلة الحضور، لأن الاحتجاجات الشعبية في الأنظمة الديمقراطية تطوّر النظام وتحسّّن أداءه، وفي غير الديمقراطية تعمّق الأزمات، لضعف القدرة على الاستجابة للتطلعات الشعبية وهنا يحدث التعثّر، ويفسح المجال لبعثرة المنجز الجماهيري في الزمان والمكان نفسه، فنحن أمام زمن قد يطول، تُستنزف خلاله إمكانات كبيرة، ويصعب بعده معالجة المشكلات الجديدة الناجمة أمام القيادات القادمة.
وهنا تحضر أهمية وجود حزب جماهيري ثوري، يمتلك منطلقات فكرية، وبنية تنظيمية ترتبط بأوسع طيف شعبي، وبمشروع وطني وقومي يدرك التحديات ولا يتردد في مواجهتها. مثل هذا الحزب هو الذي جنّب سورية مخاطر ضغوط وتحديات عديدة، تمكّنت سورية بقيادة الرئيس الأسد من الانتصار عليها بوحدتها الوطنية ومنعتها الداخلية، والتزامها الواضح والبنّاء بمصالح شعبها وقضايا أمتها.