كيف غابت بعض المفردات؟
د. عبد اللطيف عمران
مضى زمان لم نعد نسمع أو نقرأ فيه شيئاً عن الرجعية والتخلف والتجزئة، وكأن الواقع العربي تجاوز مظاهرها وآثارها ومخاطرها، فقد أتت معطيات العولمة وثورة الاتصالات والهيمنة تياراً قوياً دفع الجميع لالتماس سبل الاندماج والتكيّف مع الواقع الدولي الجديد، وظن أغلبنا أنه لم يعد هناك مخاطر أو أثر للرجعية والتخلف بمظاهرهما وآثارهما السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وقدرتهما على مصادرة الوعي والانتماء، واللعب بعقول الأجيال.
لقد انطلقنا من أن الوحدة الوطنية مُنجز حققه السلف، وبناه على أسس قوية، غير قابلة للتصدع مع متغيرات الحياة، فظهر تفكير جديد اعتبر أن مسائل التنظيم والإعداد المألوفة صارت تقليدية تجاوزها الزمن والجيل، فالأحزاب الوطنية التقدمية والمنظمات والنقابات انتهت من، أو تجاوزت, مرحلة الإعداد العقائدي، وصارت قضايا التعاميم، والاجتماعات، واللقاءات، والندوات، ظواهر زمن مضى، لأننا أمام جيل متسلّح بالمعرفة المعاصرة، وبثورة الاتصالات، يعرف مصلحة الوطن والمواطن بدقة ووعي غير قابلين للاختراق، ما جعل كثيرين يجدون إيجابية، دون حاجة الى المراجعة، فيما تم اتخاذه من توجهات جديدة في إعداد الأجيال، وتنشئة الوعي وتوجيهه.
وإذا بنا أمام مفاجأة كبرى في مستويات الوعي والانتماء والأمن الوطني والقومي على مستوى الوطن والأمة، ضاعت في تضاعيفها مفهومات الثورة والثورة المضادة، الحقوق والواجبات، الحرية والأمن، الدين والدنيا..، مفاجأة تستدعي المراجعة، ومفهومات النقد والنقد الذاتي، ولا يُتراجع فيها عن الحداثة والتحديث، لكن لا تغيب عنها ظواهر يدخل خلالها بعض الشباب الى المجالس وحلقات الفتنة بطواعية واستسلام وتراخٍ يسهل حينها مصادرة وعيهم ومصالحهم ومستقبلهم، ليخرجوا بعدها فوراً أشداء.. يهتفون للحرية!! للخراب والدمار.
واليوم ثمة حاجة ملحّة لإعادة الاعتبار للفكر في العمل الحزبي عموماً، لأن العجز عن تجديد الإيديولوجية الوطنية القومية التقدمية، ونشرها بتقنيات عصرية جذّابة، أدى الى فراغ إيديولوجي سرعان ما سمح بظهور طروحات الرجعية والتخلف، لذلك تزداد اليوم أهمية التأكيد على فكرة التقدم والحداثة والعلمانية، لأنها تدخل في مستلزمات الإصلاح الوطني الذي يواجه اليوم تحركاً رجعياً مضاداً.
وفي الوقت الذي يصطدم فيه أمامنا مشروعان، الأول: وطني إصلاحي نابع من إدراك حاجات الشعب ومصالح الوطن وقضايا الأمة، مشروع داخلي وطني يسير بدقة وسرعة لإنجاز التحوّل الديمقراطي المنشود. والثاني: غير واضح المعالم بعد، انهزامي تفتيتي تخريبي، فيما ظهر منه حتى تاريخه، يرفض الحوار مسبقاً، ولا يثق بنفسه ولا بالمستقبل، يستعجل التمرّد والانفلات، وكأن المطلوب منه الانقضاض على التوجهات الإصلاحية التي انطلقت من أن مطالب الشعب حقوق واجبة.
في هذا الوقت تُظهر السياسات الغربية إملاءات، وتدخلاً سافراً، ورؤية جزئية، وازدواجية معايير، ووصاية على النظام الرسمي العربي، وعلى الشعب، وهي وصاية بالجملة، يُستثنى منها ما يتعلق بالمشروع الصهيوني الخبيث، هذا الغرب الذي لا تغيب عن واقعه تجارة الحروب، وتجارة المعارضة القائمة على الاستئجار المؤقت، لا الشراء الدائم.
إنه الوقت الذي يكون فيه حضور تلك المفردات التي غابت ضرورةً لتشخيص الحالة الراهنة، وتجاوز مخاطرها، لأننا في وقت ينحاز فيه الغرب وعملاؤه لمن يهدّد العيش المشترك، والسلم الأهلي، والأمن الوطني، ويقطّع الأوصال ويمثّل بالجثث. وقتٍ تُحدّد فيه شروط الاستقرار، وسُبل الإصلاح ووسائله وأهدافه، بما لا يمكن أن يقبله الشعب أبداً، ولا النظام الرسمي، لأن روح الشعب ضد الرجعية والتخلف والتجزئة، ضد الانهزام والاستسلام، وضرب روح الكرامة والمقاومة والحقوق.
وشعبنا.. بأصالته العربية، وكرامته الوطنية يدرك أن سورية بموقعها الجيوسياسي هي منظومة للاستقرار، والأمن، ودعم الحق العربي، وأن هذا الشعب يرى في الرئيس الأسد القائد المنفتح على الأصالة والمعاصرة، وعلى الرأي والرأي الآخر، والقادر على إنجاز الإصلاح والتغيير، لأن منطلقه الأهم صدق الإحساس بمصالح الشعب وقضايا الوطن والأمة، منطلق قائم على الحوار والمراجعة والقدرة على التواصل والانتقال نحو الأفضل.