جماهير الحزب غير المنظَّمة
د. عبد اللطيف عمران
كان انحياز البعث – ولا يزال – إلى الطبقات الكادحة، إلى العمال والفلاحين وصغار الكسبة، انحيازاً وطنياً وعروبياً وإنسانياً، وكذلك كان تاريخه النضالي مشرّفاً ضد التجزئة والتخلف والرجعية، وهو لن ينسحب من صراعه مع الاستعمار والصهيونية، ودعمه للمقاومة الوطنية، وهو بهذا فكر ومبدأ ورؤية تستقر في أعماق الشعب بحجم أكبر بكثير من التنظيم الحزبي العددي، في وقت تتسلل فيه يد الغدر إلى جماهير الحزب غير المنظَّمة، فتعبث بوعيها، وتشوه أصالتها وانتماءها، وهي الجماهير التي يُراهَن عليها، والتي تنتظر من الحزب الكثير، وهنا تكمن مسؤولية الحزب التي عليه أن ينهض بها.
فلم يجابه البعث في تاريخه مثل هذا الهجوم المغرض والقائم قصداً وعمداً على الظلم والتزوير وتزييف الحقائق، وإعادة قراءتها، في ظروف الفوضى الخلاقة والشرق الأوسط الجديد، قراءةً غير صحيحة أبداً، لا تخدم الهوية والأصالة والانتماء، بل تسيء إلى الوطن والأمة، وإلى العروبة والإسلام.
وليس البعث وحده المستهدف الآن في هذا، بل المصالح الوطنية والقضايا العربية، والشعور القومي، ودور سورية العروبة، ففي الخريف العربي المقترن بتقدم إرادة الغرب الجيوسياسي نهض المشهد الاحتجاجي العربي بشكل لم تُعرف بعد دوافعه وأسبابه ومخططاته التي تشابهت في الطروحات وفي نمط التدخل الأجنبي، وتواكبت في الزمن، وتسفر كل يوم عن جديد مخبّأ لم يكن بالحسبان.
فقد غاب دفعة واحدة عن هذا المشهد الواسع الحلم القومي، وهموم الهوية والانتماء، والاستيطان والاحتلال والحصار، والصراع العربي الصهيوني، والتكامل الاقتصادي العربي، وتعزيز مؤسسات العمل العربي المشترك، هذه المؤسسات التي يقع بعضها الآن فريسة التنسيق مع الغرب الاستعماري. وبالأحرى غاب عنه أهم القضايا المصيرية للجماهير العربية، ولحركة التحرر العربية، وعاد المشهد في المشرق والمغرب لينهض من جديد مستغلاً أيام الجمعة والمساجد في إطار متكامل بين توجهات الغرب وأدواته في الداخل والخارج، بعد أن ركز الطرفان على الدور التآمري لشاهد العيان في كتابة التاريخ العربي المعاصر، وصلة هذا بما كان يسمى سابقاً الرجعية العربية، وآثار البترودولار وفنادقه، وهذا ما يستدعي البحث مجدداً في الثورة والثورة المضادة.
ولم يقف البعث يوماً في وجه التغيير والتحديث والتطوير، بل هو من بعض تجليات الحداثة العربية، وقد كان روّاده الأوائل الطليعة الواعية والمثقفة والملتزمة، والمتطلعة إلى التجديد والديناميكية، ولم تغب هذه السمات عن تاريخه النظري والعملي، بغض النظر على الرؤية التقييمية، وعلى سبيل المثال فقد عقد الحزب في عقْد الستينيات تسعة مؤتمرات قومية، كما عقد في سورية بين 1963 – 1971 تسعة مؤتمرات قطرية أيضاً بين دوري واستثنائي، حتى وصل إلى مرحلة الاستقرار بعد الحركة التصحيحية التي مضت في التغيير والتطوير، وانتقلت بالحزب من حزب الطليعة إلى حزب الشعب، ومن الصراع الطبقي إلى الوحدة الوطنية، وإلى التعددية الحزبية والاقتصادية، وهذا ما وسّع قواعد الحزب وجماهيريته، وعزز حضوره ودور مؤسساته.
والحديث عن هذا التوسّع التنظيمي، ولا سيما العددي، ذو شجون، ولاسيما ما يتصل بالحديث عن الكم والكيف، وللقائد التاريخي حافظ الأسد حديث طويل مهم فيه، أسهب شفهياً خلاله في بيان أسبابه في المؤتمر القطري السابع، ولم ينشر حتى تاريخه.
هذا التوسّع الذي يستحق البحث والمراجعة هو من بعض أسباب أزمة الحزب الراهنة، إلا أن الدافع الأساسي إليه كان توسيع قاعدة الحزب التنظيمية، توسّعاً مقترناً بمفهوم الحزب الجماهيري، الحزب الذي تجد فيه أغلب فئات الشعب – وليس البعثيون فقط – أصالتها ومصالحها وانتماءها.
ومع المؤتمر القطري التاسع انتقل التفكير جدياً في تطوير الحزب انطلاقاً من انسجام عمل الحزب وفكره مع تطلعات جماهيره المنظمة وغير المنظمة، تطويراً يتناول المنطلقات الفكرية، ومنهاج العمل، دون أن يمس العقيدة لأنها ترتبط بالمصير والهوية، وتقوم على مبادئ وأفكار تنحسر أحياناً، ويتقدم بعضها على بعض لكنها لا تسقط لأنها مرتبطة بإرادة عامة الشعب، وبقضايا الأمة، إيماناً بأن التغيير سنّة الحياة، ولا يجوز التصدي لحركة التغيير.
فالتغيير لن يكون مرتبطاً باللحظة الراهنة فقط بل بالذهنية والمبدأ، وقد وضَّح هذه الرؤية الرئيس بشار الأسد في خطاب القسم للولاية الدستورية الأولى بحديثه عن إمكانية الاستغناء عن أفكار قديمة لا يمكن أن نجدّدها، ولم يعد ممكناً الاستفادة منها، بل أصبحت معيقة لأدائنا.
إن قدرة الحزب على مراجعة ذاته، ونقد كوادره المستمر للفكر والممارسة، إضافة إلى إشكالات الواقع الراهن، كلّها لن تضائل من وعي جماهيريته المنظمة وغير المنظمة، بل ستؤكد من جديد أنه كان وسيبقى الحامل الأقوى لمصالحها وقناعاتها.