الغرب يدمّر المجتمع قبل الدولة
د. عبد اللطيف عمران
مع أننا لا ننطلق في تقديم مخاطر التدخل الخارجي في الأزمة التي نعيشها اليوم من القفز فوق أثر العامل الذاتي أو الداخلي تجاوزاً أو تجاهلاً، إلا أن الواقع العربي الراهن يثبت أن تاريخنا لم يشهد أنصاراً أو دعاة للتدخل الأجنبي على نحو ما نجده الآن.
وقد أصيبت بهذا الداء بعض النخب السياسية والفكرية التي ارتفع صوتها مطالباً باستدعاء الغرب «فتدخله هو الذي أوقف الأزمات في العراق وأفغانستان ودارفور وكوسفو.. والغرب لا يستفيد من ثروات الخليج بل يشتريها كغيره بأسعار السوق..»!!، وحقيقة الأمر أن أصحاب هذه الدعوات يعيشون أُجراء في حواضر الغرب.
وبالمقابل لم يعد المشروع القومي العربي إلا حلماً، فها هو الصوت العروبي يخبو حتى ليكاد ينطفئ، وينسحب هذا الواقع ليؤثر سلباً في بنية الأمة والدولة الراهنة وفي الهوية الوطنية والقومية، لتبرز آثار واضحة متقدمة للانتماءات الضيقة ولسائر العصبيات، فأين العرب اليوم سياسياً واجتماعياً وفنّياً من نشيد محمود حسن إسماعيل، وغناء عبد الوهاب: نحن شعب عربي واحد/ضمَّه في حومة البعث طريقُ.
ومع ضعف أداء مؤسسات العمل العربي المشترك، والتراخي في الشعور القومي، وتقدّم دور مجلس التعاون الخليجي على دور الجامعة العربية، برزت ظواهر سلبية عديدة في النظام الرسمي العربي انسحبت آثارها للأسف على الواقع الشعبي، فتهلهلت الوحدة الوطنية، وتأزّم الحوار الداخلي والوفاق الوطني، ليتقدّم الانقسام والاقتتال، وتغذية الجماعات بالأحقاد والسلاح.
ودور الغرب في هذا قديم، ومتجدد، وهو واضح في اتجاهات أبحاث المستشرقين قبل سايكس بيكو وبعدها، إلا أن هذا الدور اليوم أشد خطورة لاقترانه بخطوات وقناعات تتقدم على الأرض، ويُغرّر بها الشعب والنُخب، وتنتصر لها بعض الأطراف الرسمية والشعبية، حتى صار العرب مجتمعات ودولاً، بؤراً مؤهلة للانفجار الاجتماعي الأليم.
ومن المؤسف أن يكون التدخل الغربي بالغ الأثر في التحولات التي تعيشها المنطقة، وأن يكون الغرب سياسياً وعسكرياً وإعلامياً وطيد الحضور في قضايانا المصيرية، وفي الإرادة الوطنية والعربية. الغرب الذي خبرنا خياناته ومؤامراته وأطماعه، ومعاداته لحقوقنا ومصالحنا، ودعمه للطائفية والمذهبية والعنصرية والصهيونية، واستهدافه روح وحدة الشعب، والعيش المشترك، وكل ما يعتز به العرب والمسلمون من قيم ومبادئ وأخلاق.
واليوم يعمد الغرب إلى أخبث الأساليب فيدخل في الوعي الجمعي الشعبي، ويدمّر الأصالة والانتماء للأرض والتاريخ، ويتمكّن بتفوقه التكنولوجي من العبث بعقول الأجيال، وبعض الحكّام، في إطار أزمة حكم عالمية تنعكس ثورات شعبية في النظم السلطوية والديمقراطية على السواء، وتتكشّف عن مشكلات بنيوية في كافة النُظم. ويقوم الغرب بتصدير هذه الأزمات إلى منطقتنا خاصة.
ومن هذا القبيل كانت زيارة سفراء الغرب إلى عدد من المدن والأرياف السورية والعربية نقطة فاصلة في تاريخ مخاطر التدخل الأجنبي الوقح، وهي تذكّر بالزيارات الميدانية لمستشرقيه وعملائه في الماضي، كما كانت العقوبات على سورية وغيرها من البلدان العربية ضغوطاً خارجية وداخلية وتدخلاً سافراً يضرّ بمصالح الشعب والدولة، ويتنافى مع المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان ومع ميثاق الأمم المتحدة الذي لا يسوّغ لها التدخل في الشؤون التي هي من صلاحيات السلطات الداخلية لأية دولة، ولم تسفر هذه السياسات في المنطقة إلا خللاً وأزمات في الحياة الداخلية، وتهديداً للوحدة المجتمعية، وللسيادة والاستقلال.
واستراتيجية الغرب تقوم اليوم على الاستفزاز وغرس بذور الانفعال والتوتر والفتن، وعلى أن ما نشهده ثورات، وربيع.. علماً أن فكرنا النهضوي آثر الإصلاح التدريجي، لأن الإصلاح بحاجة إلى استقرار، ووفاق وطني، وحوار داخلي، ومؤسسات رسمية وشعبية قوية تقوده وتنجزه، وليس إلى إضرام نار الفتنة التي يذكيها الغرب اليوم، وهو بحاجة أيضاً إلى زمن على الأقل مساوٍ لزمن مكافحة الإرهاب!!.. أو مفاوضات السلام التي يرعاها الغرب.
إننا أمام أزمة وعي وانتماء يدمّرُ الغرب بهمجيته خلالها كل شيء، وهو لاينتصر لإسقاط نظام، بل يعمل على تدمير المجتمع والدولة.