البعث: مسائل التجريب والمراجعة
د. عبد اللطيف عمران
تميّز البعث منذ أواخر النصف الأول من القرن الماضي بحضور قوي، ودور إيجابي فاعل في الانتصار لقضايا الشعب والوطن والأمة لايمكن لأي عروبي نكرانه. وصادف الأمر اليوم متغيرات في الرأي خاصة تجاه الفروق بين النظرية والممارسة، ولاسيما بعد وصول الحزب الى الحكم في بلدين عربيين وحضوره الفاعل على مسرح الأحداث في الساحة العربية، وتصديه للمشروع الصهيوني، ولسياسات الغرب وأطماعه، وموقفه الواضح من مظاهر الرجعية والتخلف.
وفي الوقت الذي تُقبل فيه اليوم دول مابعد الاستقلال العربية على متغيرات بنيوية، باستثناء الممالك والإمارات – مرحلياً – تظهر الحاجة ماسّة الى تجديد شباب الحزب فكراً وتنظيماً ووسائل، لأن عدداً من هذه المتغيرات لايزال يتشكل بنوع من الوصاية الغربية المقترن بوهم الاستقلال السياسي والاقتصادي والاجتماعي أيضاً، وصاية يؤسس لها بعض العرب بقوة وعمق، ولاسيما أنها قامت على مايسمى معارضة، تعيش في الغرب وتستمدمنه الرؤية والدعم والتضليل الإعلامي، مع افتقادها القدرة على تشكيل قاعدة شعبية في الداخل.
هذه المتغيرات ستواجه تعارضاً شعبياً وطبقياً واضحاً وهي تسعى لبناء شرعية جديدة على أنقاض الشرعية السابقة، وذلك لاستمرار إشراف الغرب عليها، ولأنها جاءت متسرّعة دون أن تخوض النضال الوطني والشعبي بالتفاف جماهيري تتضح معه الرؤية والهدف المشروعان على أساس من الحوار الداخلي الهادئ والموضوعي، وهو ماسيسفر عن أوضاع تتضعضع معها السيادة الوطنية، ومصالح الشعب وحقوق الأمة.
هذا ما سيرتب على البعث تبعات واقعية وتاريخية جسام، وهو يمر، بكل تأكيد، في أزمة طابعها التنظيمي أبرز لأنه في فكره ونظريته الوطنيةوالعروبية مايزال يملك المشروعية والقبول، فلم تنحسر المساحة الشعبية لجماهيره ولاسيما غير المنظمة، بل على العكس فإن ماتمر به الأمة العربية اليوم مشابه في كثير من الأوجه لما مرت به مطلع القرن الماضي، فبعد انتصار حركات التحرر الوطني نشهد اليوم نفوذاً غربياً أردوغانياً مغرضاً لرسم خارطة جيوسياسية جديدة تخلط بين الإسلام السياسي والإسلام التاريخي، إسلام عصر النهضة، وبين العلمية والثورية، بين التحرر والأصولية والحرية. وهذه قضايا تستدعي «البعث» على أساسٍ من المراجعة والتجديد، ولا شك في أن الحزب قادر على ذلك، وجماهيره الواسعة رغم التضليل والتحريض ترنو إليه، ولن تفقد الثقة به، وهي ترى ماترى!!
الساحة العربية ملأى اليوم بالفراغ والتطلع، وهي عطشى يعبث في أخاديدها الضائعون ومنجزات وسائل الإعلام المستحدثة بتخطيط غربي متخف أحياناً وفاقع أحياناً، وعلى حَملة المشروع القومي أن يملؤوا الفراغ، ولاسيما البعثيون منهم وهم قادرون بكفاءات آلاف الأكاديميين والمهنيين والفنيين والمثقفين على أن يعيدوا النظر، وينجزوا المراجعة المطلوبة فوراً.
فما يتعرض له البعث من نقد شديد اليوم، هو نقد غير بريء، وغير موضوعي تختلط فيه عوامل: الانتقام – الحقد – قصور العامل الذاتي. وهو في كثير من اتجاهاته يتناول الحزب وقيادته ودوره، ولا مسوّغ له وهو ينطلق من خلط بين البعث والسلطة التي لحق الحزب منها ماأتعبه، وأضرّ به على غرار ماتضر كل سلطة بالنظرية والفكر، فالفصل بين البعث والسلطة التنفيذية سيغني الحزب، ويحمي حضوره كقوة في الوجدان الشعبي أولاً، سرعان ماتتوطد على الأرض وتتقدم ثانياً مع بروز صنف جديد غير مألوف سابقاً من «المعارضة الخارجية» يدخل في خانة العمالة والخيانة، وهم يعرفون صلتهم الحقيقية بالناتو وأدواته في المنطقة من صهيونية ورجعية.
فالبعث مدعو اليوم الى مراجعة من نوع جديد، وقد أبدى فيما مضى كثيراً من المرونة والتجريب في قضايا أساسية تنظيمية وفكرية أثارت تساؤلات كبرى، ولاسيما حول: الاجتماع الحزبي – تعليق العضوية – المرونة أمام تراجع الدور الاجتماعي للحكومة – التراخي أمام نشاط الجمعيات الأهلية ومؤسسات المجتمع المدني والأهلي… وهو في هذا جميعه لم يصدر عن ضبابية في الرؤية، بل عن رغبة في مواكبة معطيات العصر الحديث، لأن جماهيره وقياداته وموطنه الأهم سورية حققت حضوراً فاعلاً في معترك الأحداث الجسام التي عاشتها المنطقة وخاصة في العقد الأخير، لكن المؤامرة كانت كبيرة، وستكون إرادة البعث وجماهيره أكبر وأوسع، وفي وقت قريب.