الخطاب.. بين السياسي والتاريخي
د. عبد اللطيف عمران
من مأثور العرب القول: «لمّا استعمل الرواة الكذب استعملنا لهم التأريخ» والرواة هم قنوات التحريض. فالتأريخ ليس مطلق التعريف بالوقت، بل هو كتابة التاريخ بالأدلة المقارنة.
ومن هذا المأثور، وغيره نلمس كثيراً من الأبعاد الواقعية والتاريخية المّهمة في خطاب الرئيس الأسد بالأمس، ولاسيما في توضيحه لعدد من المفارقات بين السياسي والتاريخي «فالعروبة ليست قراراً سياسياً، بل هي تراث وتاريخ، وهي انتماء، لا عضوية، هي هوية يمنحها التاريخ».
فليس من عادة الخطاب الرسمي العربي السوري أن يكون محلياً ومحدوداً بالزمان والمكان، فالسوريون عروبيون أقحاح منذ فجر التاريخ، وحال الأمة… مسألة حاضرة باستمرار في وعيهم شعبياً ورسمياً، وتشاركهم في هذا قطاعات واسعة من جماهير الشعب العربي، حيث الهم الوطني والقومي صنوان.
وتشهد أمتنا اليوم تحولات تاريخية كبيرة لا تقتصر على المظهر السياسي، بل إن نتائجها ستتواصل وتتفاعل لسنوات طويلة قادمة لتتجلى بمظاهر جديدة ومفارقات ذات طابع تاريخي على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية، منها مايتصل بالوعي والهوية والانتماء والالتزام، فلا شك في أننا على أعتاب مرحلة جديدة في التاريخ المعاصر تتضافر على صياغتها جهود قوى إقليمية ودولية لتضعف فيها الصبغة القومية، وبالتالي الوطنية.
ومن هذه الزاوية يعدّ خطاب السيد الرئيس نتاج قراءة دقيقة للواقع العام ببعده التاريخي والراهن والمستقبلي يهدف، في بعض مايهدف إليه، إلى الانتقال من التشخيص السليم والموضوعي إلى توضيح الحلول الناجحة لمعالجة الأزمة التي تطال الجميع انطلاقاً من الاعتراف بمظاهر الخلل والخطأ والتقصير وصولاً الى المضي قدماً في تنفيذ خطوات مشروع الإصلاح الوطني الديمقراطي.
وإذا كان الخطاب بجرأته وشفافيته والتزامه بقضايا الشعب والأمة أصاب مقتلاً في جسد المتآمرين والمؤامرة التي لم يعد من الموضوعية والواقعية تسفيه نظريتها، فإن المصابين – وهم للأسف ليسوا قلة – يصرخون في الأمصار التي يضربون رحالهم فيها صراخ المخذول والضائع والمرتهن للخارج، وهم يشهدون تزايد الوعي الشعبي والعربي بأسباب وأهداف المؤامرة التي هي جزء من مخططات كبرى سابقة وعامة يغدو معها الجانب التاريخي أشمل وأعم من الجانب السياسي المؤلم في كثير من أسبابه ونتائجه، ونحن نلحظ إسلاماً سياسياً، وعرباً سياسيين يتنكرون للروابط والمصالح والهوية التاريخية.
إننا في زمن تنطلق فيه استراتيجية التحالف الصهيوني الأمريكي من أن التصالح بين العروبية والصهيونية أمر مستحيل، ومن أن هذا التصالح ممكن بين الإسلام السياسي واليهودية، لذلك تنعطف اليوم اسرائيل بدعم غربي لتكريس يهودية الكيان، وتضمر مع «الربيع العربي» إثارة موضوع التعويضات العربية التاريخية لليهود، وهي تتجه اليوم لإقامة الدعاوى اللازمة للحصول عليها ولاسيما من الذين يقيمون علاقات معها، أو أعلنوا عن استعدادهم لإقامة علاقات. أو الإبقاء عليها. فهل يغيب هذا الصدام بين أصوليتين عن المسؤولين العرب وجامعتهم؟
في هذا الزمن ينطلق السيد الرئيس من أن الهمّ الوطني والقومي متكاملان، ومن أن الاهتمام بمعالجة الأزمة الداخلية مرتبط بتفاعلات الواقع المحيط. كما ينطلق من أن المنصب حالة سياسية راهنة، والأهم هو المسؤولية باعتبارها وعياً والتزاماً تاريخيين. فمتى تستيقظ ضمائر المتورطين من الداخل والخارج، «وضمائر الذين معنا في القلب وضدنا في السياسة» لينظروا الى وحدة الشعب وثقته وأمله في أننا سنكون أمام مرحلة جديدة، وهي ليست انتقالية، مرحلة وُجِهت فيها الدعوة للجميع الى الإسهام في بناء سورية المتجددة.