الجذور الرجعية والامبريالية لخـطـاب بــعــض المــعـــارضــة
د. عبد اللطيف عمران
لم يسفر المشهد الاحتجاجي العربي، على تنوّعه في البنية والوظيفة، عن النتائج المأمولة تجاه القضايا الشعبية والوطنية والعربية، بل أفضى الى وضع زمام القرار الوطني بين قبضتي الناتو، والإسلام السياسي.
ومن ملامح بؤس هذا المشهد غياب دور النخب الوطنية العقلانية، ودور الطبقة الوسطى التي تعيش بين الجماهير عن القرار فيه، إذ تُرك أمره لغوغاء في الداخل لاتحترم المثقّف ولا رجل الدين الحقيقي، ولا عقلانية الكبير، ولا تدري ماذا يخبّئ المستقبل لها وللأوطان. كما تُرك لمعارضة استمرأت الضخ البترودولاري العفن، والإقامة في حواضر الأطلسي، وألمعيات حكّام قطر وتركيا والسعودية، إضافة الى رهانها على مؤسسات مجتمع دولي طالما كانت تئن تحت وطأة الناتو، حتى جاء مؤخراً الفيتو التاريخي المزدوج ليضعضع هذه الوطأة.
هذا من جهة، ومن جهة ثانية فقد تقدّم هذا المشهد بديلاً، وتعويضاً عن فشل عملية السلام، ولاسيما الفلسطينية – الاسرائيلية، وواكب هذا الفشل تركيز القيادة السورية على السلام خياراً استراتيجياً من جهة، وعلى نشر ثقافة المقاومة من جهة ثانية نشراً أهم من الدعم اليومي.
فكان «الربيع العربي» من نتائج فشل الرعاية الأمريكية لعملية السلام، هذا الفشل الذي سيُعوّض عنه بدعم حضور مجلس التعاون الخليجي بديلاً عن الجامعة العربية، ثم انتقل المجلس ليسطو على الجامعة وعلى الإرادة والوعي، معززاً بالناتو. وفي هذا المناخ تم نقل مركز اهتمام الولايات المتحدة الى سورية تحديداً، واستلزم ذلك حشدَ قوى صارخاً ومتنوعاً وغير مسبوق، لكن سورية كانت ولاتزال عقدة النجّار، التي وقفت معها الدولتان العظميان وقوف القوي مع القوي، فواجهت الأزمة، وصدّرت الإرهاق والإرباك والخوف والقلق الى أولئك المقامرين والمراهنين بخسارة وابتذال وانعدام ضمير.
ولا شك في أن دور المعارضة الخارجية في هذا السياق مخزٍ، ووضيع وقد كُتب فيه، وفي أمثاله كثير من الأبحاث التي تؤكد خطره على الهوية والوعي والانتماء، وعلى الأخلاق والواجب والضمير. وترفّعاً عن ذكر الأسماء، فما من شك أن هؤلاء:
– مغرمون بحواضر الأطلسي الأمريكية والفرنسية والتركية، والقطرية أيضاً، فلا تتسع الصين والهند وروسيا وأوروبا الشرقية وأمريكا الجنوبية… لطموحاتهم ومشاريعهم «الوطنية والإنسانية؟!» التي لا ضفاف لها. ولا تعجبهم الإقامة في عواصم الحكمة والشرف التاريخية، بل يستمرئون المقار الرجعية والامبريالية.
– وهم يقيمون في تلك الحواضر، ويتنقلون بين الفنادق والمطارات تنقلاً مشابهاً لرحلات حمد والعربي والحريري وفيلتمان…، ويمدّهم في ذلك إرث مادي يمتح من جيوب الرجعية النفطية بعمالتها التاريخية للامبريالية الغربية. ولذلك يكون خطابهم خائباً، فهناك فرق بين من يحاور من واشنطن أو قطر أو باريس، وبين من يحاور من دمشق التاريخ. وهؤلاء وأسيادهم لاينشدون ديمقراطية ولا إصلاحاً، والشاهد أن أكثر بند أزعجهم في التعديلات الروسية على مشروع قرار مجلس الأمن الأخير بشأن سورية، هو البند المتعلق بتعميم الديمقراطية في الشرق الأوسط، لأنه يطعن في الصميم تحالف القوى الرجعية والامبريالية في المنطقة.
– وهم يحتفلون بتميّزهم عن أي إنجاز ثوري تاريخي انطلق من صميم الواقع ومن بين أحضان الشعب، من الحوار والسجال والمواجهة. احتفالاً في تلك الحواضر، وراحة وجدان وضمير خائبين، مطالبين بغزو امبريالي، وبقصف أطلسي عسكري، وهنا تتميز أدوات الارتهان والإرتزاق السورية – المنشأ مع الأسف لا الأصل – عن المعارضة التونسية والمصرية واليمنية والبحرينية التي لم تطالب بهكذا غزو.
– كما أن هؤلاء المنفوخين مأخذون بالعزة بالإثم، فهم إقصائيون، يرون في معارضة الداخل، وفي نزعة الحوار، مؤامرة يجب التخلص من أطرافها بالتخوين والتكفير والعنف، وهم في عجلة من أمرهم، يريدون «الآن»، ولا ينظرون ولا ينتظرون لغدٍ، لأن حتى أسيادهم ضاقوا بهم ذرعاً، وبدؤوا يتيقّنون أن فشهلم سينعكس سلباً وتقويضاً للتلاقي الرجعي الامبريالي.
وفي سياق الاستعجال والارتهان والارتزاق يضيقون ذرعاً بالنقد، ولا يستطيعون التسامح معه أبداً، لأنهم على قناعة بأنه سيكشف طبيعة علاقتهم بالرجعية العربية، وبالامبريالية الغربية، ولأنهم ينطلقون من استبداد، وأحادية، وإنكار للآخر.
< ومن جانب آخر، وتلافياً للتعميم لابد من الاعتراف بقيمة المعارضة الوطنية، وبأولئك الذين يتدثّرون بدثار الكبرياء، وينزعون الى تجديد حيوية المجتمع السياسي السوري بأبعاده الوطنية والقومية، ويعملون بين أبناء الشعب على تطوير التجربة الديمقراطية، وتعزيز التحالف بين القوى السياسية الوطنية السابقة والصاعدة منها.
وبهؤلاء تكون المعارضة ملح الأوطان، وهي تتبادل مع شرائح الشعب كافة الهمّ الوطني، فلا ترفض الحوار بل تقبل عليه، وتنشده حلاً أولوياً، إدراكاً عالياً منها لحساسية الظرف، واستنكاراً لتحالف القتلة والرجعيين والامبرياليين المناهض لمصالح الشعب والوطن والأمة، في زمن تتقدم فيه المزايدات الرخيصة في نوادي مجلس التآمر الخليجي، والجامعة العربية، ومؤسسات المجتمع الدولي التي أسبغت على المعارضة الخارجية مفهومات ووظائف جديدة ستتبلور لاحقاً فيما سمّي بـ«أصدقاء سورية». وفي وقت يعمل فيه مشروع الإصلاح الوطني الديمقراطي على إعادة إنتاج خطاب مغاير جديد، سيبني وعياً جمعياً وعقداً اجتماعياً، يتلاشى فيه الوعي الزائف، وسائر العصبيات، يبني مجتمعاً ودولة وطنية على أسس من الحوار والتقدّم والحرية والاستقرار.