الحزب بين المادة الثامنة والمادة الثامنة
د. عبد اللطيف عمران
هل من قبيل المصادفة أن يكون الرقم 8 هو الترتيب نفسه الذي تشغله المادتان المعنيتان بالصلة بين التعددية الحزبية والسلطة، في الدستور الذي أُقرّ بنتيجة الاستفتاء الشعبي في 13/3/1973، ومشروع الدستور الذي سيجري الاستفتاء عليه في 26/2/2012 بعد مضي ما يقارب الأربعين سنة ؟
إن التساؤلات حول هاتين المادتين، وحول بقية مواد مشروع الدستور الجديد عديدة، لأن المادتين المذكورتين تمثل كل منهما في مرحلتها التاريخية جانباً مهماً من العلاقة بين السياسة والمجتمع والسلطة، في النظرية والممارسة، كما أن أوجه المشابهة والمفارقة بينهما تكاد تختصر الى حد ما صورة سورية المتجددة، ببعدها الوطني والعروبي التاريخي العريق، والمستقبلي المنشود.
ولا شك في أن المادتين تمثلان نزوعاً تشاركياً تعددياً، متطوراً عن المرحلة التي تسبق كل منهما، واتجاهاً فيه نأي عن المقدّس الحزبي السائد سابقاً.
لكن الواقع اليوم في المنطقة يشهد تحولات عديدة، ولا سيما على الصعيد السياسي، يظهر بعضها في أشكال من الانفجار الحزبي الذي يريد الجميع من خلاله أن يسهم في تدشين صرح لحياة سياسية جديدة يشعر فيها أنه قادر على الإسهام في بناء الدولة والمجتمع والسلطة التي يريد بفكر جديد وأسلوب جديد أيضاً، بحيث يمسك أكثر بحقوقه السياسية، وخياراته المتعددة.
والمادة الثامنة الأولى «دستور 1973» والتي تنص على أن البعث هو «الحزب القائد في المجتمع والدولة، ويقود جبهة وطنية تقدمية تعمل على توحيد طاقات الشعب، ووضعها في خدمة أهداف الأمة العربية»، لم تأتِ منّةً ولا تسليماً، بل هي حصيلة لجهود كبرى بذلتها أجيال البعث الأولى، ضد الرجعية والاستعمار والتخلف والتجزئة..، ولتجذّر أدبيات البعث وتاريخه النضالي في وجدان الفئات الأوسع من جماهير الشعب. وفي ضوء هذا لا يمكن لمُنصف أن ينكر ما حققته سورية معها في العقود الماضية من تطور وصمود، واستقرار، ودعم لمصالح الشعب وقضايا الأمة.
ولذلك نشهد مؤخراً مواقف متباينة في الجهاز الحزبي حول مصير هذه المادة، وقد تم حسمها في اجتماع القيادات الحزبية برئاسة الأمين القطري للحزب السيد الرئيس بشار الأسد في منتصف العام الماضي، وأصدرت قيادة الحزب الأسبوع الماضي تعميماً يوضّح هذا الأمر، وبما يعلي شأن المصلحة الوطنية فوق رغبة الأحزاب. على الرغم من أن مسألة الحزب القائد أو الحاكم مسألة فيها أقوال واجتهادات، وتخضع لانحراف أو انزياح بالمعنى الأدق ووفق المنطق المعاصر. ولم يغب السجال في هذه المسألة ومنعكساتها في أي من المنتديات والملتقيات الحزبية.
كما أن المادة الثامنة الثانية «مشروع دستور 2012» لا تشكل خسارة للبعث، بقدر ما هي استعداد للتضحية المثمرة، على غرار تضحيته بحل تنظيمه في سورية لإنجاز الوحدة بين سورية ومصر عام 1958، وهي ستغني إرثه وتجربته، لأنها لا تتناقض أبداً مع أهدافه ومشروعه الوطني والقومي. فقد تكرّس النزوع التعددي الحزبي والاقتصادي في سورية بعد الحركة التصحيحية، وترسّخ هذا أكثر وتطوّر بعد المؤتمرين القطريين التاسع والعاشر، حتى برزت شكوى الرفاق جليّة حول الخلل في العلاقة بين الحزب والسلطة، ولصالح السلطة طبعاً.
وتنصّ هذه المادة على «أن النظام السياسي للدولة يقوم على مبدأ التعددية السياسية، وتتم ممارسة السلطة ديمقراطياً عبر الاقتراع، كما تسهم الأحزاب السياسية المرخّصة، والتجمعات الانتخابية في الحياة السياسية الوطنية، وعليها احترام مبادىء السيادة الوطنية والديمقراطية، وينظّم القانون الأحكام والإجراءات الخاصة بتكوين الأحزاب السياسية التي لا يجوز أن تقوم على أساس ديني أو طائفي أو قبلي أو مناطقي أو فئوي أو مهني، أو بناءً على التفرقة بسبب الجنس أو الأصل أو العرق أو اللون. كما لا يجوز تسخير الوظيفة العامة أو المال العام لمصلحة سياسية أو حزبية أو انتخابية».
والمفارقة لدى البعثيين بين المادتين رقم 8 لا تنطلق من الربح أو الخسارة، بقدر ما تنطلق من أن التغيرات بعامّتها في مشروع الدستور الجديد تتوافق وتواكب التطورات السياسية والاجتماعية المحلّية والمحيطة، وسينجم عنها ولا شك تغيرات في بنية النظام السياسي، وفي وظيفته وأسلوبه أيضاً وهذه التغيّرات واضحة في مشروع الإصلاح الشامل، ولا سيما من خلال قوانين الأحزاب والانتخابات والإعلام والإدارة المحلية..
إنّ المهم الآن هو العودة المتجددة لكافة شرائح الشعب إلى صدارة المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، على أساس من الوعي والانتماء الأصيل، ولا سيما أن منطلق المادتين يؤكد على حياة حزبية وطنية عروبية تقدمية، تمثّل مصالح الفئات الواسعة في الشعب، وهذا ما كان البعث وسيبقى ينشده، وليس الحكم أو السلطة التي لا شك أنها أضرّت به في مجالات عديدة، وآية ذلك أن قيادة الحزب أكدت على ضرورة الانتصار لكافة المتغيرات الحاضرة في مشروع الإصلاح، ولا سيما أنها حضّت مؤخراً في تعميم لها على الإقبال على الاستفتاء على مشروع الدستور الجديد .
ولذلك سيكون البعث مع الثانية أقوى، لأن الانتقال بين المادتين ليس انتقالاً من السلطوية الى الديمقراطية، وليس انصياعاً للضغط الإعلامي والسياسي الراهن الذي يغيب معه أي جانب مهني أو إنساني أو أخلاقي، فالجميع يعرف أن بداية هذا الضغط تمثّلت في الهجوم أولاً على البعث، ثم على المادة الثامنة، ثم السلطة فالدولة فسورية كلها، وعلى أساس من تخطيط متدرّج من العواصم الأطلسية والرجعية، تخطيط لا يمكن معه إقصاء أو تسفيه نظرية المؤامرة التي يغرق المجرمون والمأجورون الآن في حطامها.