واقــع المنظمات والـنقابــات بــين العـقـائــديــة والمـهنـيــة
د. عبد اللطيف عمران
سيسفر الواقع العربي الراهن عن أنماط جديدة في الحياة السياسية الوطنية،والعربية، وسينسحب هذا على مؤسسات العمل العربي المشترك كافة، وعلى الأحزاب والاتحادات والنقابات العربية، ولاسيما أن قسماً كبيراً منها تشكّل ونما وتطوّر من حيث البنية والوظيفة في مرحلة تصاعد الشعور القومي، ثم أصابه ما أصاب بعض المجتمعات العربية من نكوص في هذا الجانب، خاصة بعد بروز التيارات الأصولية والسلفية، وتقدّم الإسلام السياسي مدعوماً بالرجعية العربية والتدخل الامبريالي الجديد مما سيقوض دور المنظمات والنقابات.
لكن الأصل في عمل المنظمات والنقابات هو قدرتها على التمثيل القوي والموضوعي لهموم وتطلعات الفئات التي تنضوي في تنظيمها، إضافة الى حيويتها وتواصلها مع نظرائها على المستويات العربية والدولية، بما يكفل حقوق أعضائها المطلبية، وتطورها المهني والعلمي، ويوطّد حضورها الاجتماعي والسياسي، وهنا لا تستطيع أن تنقطع عن الحياة الحزبية.
وفي أغلب البلدان تكون هذه المنظمات والنقابات صورة من صور الديمقراطية الشعبية وشكلاً من أشكال المجتمع المدني، وتقترب هذه المشابهة أو تبتعد تبعاً لعلاقتها مع الأحزاب والسلطات والمجتمع.
وهنا تكمن الإشكالية في توصيفها بين النضال المهني، والانتماء الإيديولوجي، مع ترجيح صعوبة توصيفها على أنها عقائدية أو حزبية، لأنها في الأساس تختلف بنيوياً ووظيفياً عن الحزب، ويحقّ لها في هذا المجال أن ترجّح الجانب البراغماتي في برامجها وأهدافها، ولا ضير في أن يتضاءل هذا الترجيح في الظروف التي تتعرض فيها الأوطان الى أزمات تاريخية حادة، حيث تعلو المصلحة الوطنية العامة فوق الجميع من أفراد وجماعات وأحزاب ومنظمات.
واليوم تعيش سورية وأغلب البلدان العربية في ظروف صعبة يظهر فيها بجلاء أثر التدخل الأجنبي، ومنعكساته السلبية التي من أهمها تضافر جهود الغرب والمعارضة المأجورة له على تكريس فهم خاطىء في الأذهان مبنيّ على ضرورة التناقض بين الديمقراطية ، والدولة الوطنية، فهبّ بعض الشباب من حيث يدرون أو لا يدرون مندفعين في موجة تفكيكية تحطيمية بعيدة عن أي دليل نظري مرتبط ببديل استراتيجي واضح المعالم قائم على أسس موضوعية وطنية أو قومية، وعمد تحالف الرجعية والغرب والأصولية على غرس وهمٍ مفاده أن الحرية لا تتحقق إلّا على أنقاض الدولة الوطنية، فوصلنا الى ما وصلنا إليه في بلدان مشرق الوطن ومغربه من واقع يُساء فيه الى الديمقراطية وإلى الدولة.
وقد رافق هذه الظروف سعي رباعي الدفع قائم على الوهم، وعلى الرهان الخاسر على التشكيك في حيوية الشعب العربي، وأصالته ووعيه وصدق انتمائه، فظنّت الأطراف الأربعة التالية أنها تستطيع أن تحقق تحت وطأة هذه الظروف مصالحها المتناغمة دفعة واحدة: فالغرب أولاً يستحوذ على النفط، والصهيونية ثانياً تحتفظ بالأرض المحتلة، والرجعية ثالثاً تحافظ على استقرار سلطانها، والإسلام السياسي رابعاً يحظى بالسلطات القادمة.
وكان استمرار صمود شعب سورية وقيادتها السياسية في وجه هذه التحديات التي ليست هي طارئة، وإنما تتجدد حسب طبيعة كل مرحلة، مثار تقدير وإعجاب الأحرار والشرفاء في المنطقة والعالم، خاصة بعد أن تكشّفت ضراوة المؤامرة وخبثها، والصلات غير الأخلاقية وغير الوطنية واللا إنسانية بين الأطراف الأربعة المذكورة أعلاه والتي استمر التواصل والتخطيط المعلن والصريح فيما بينها وهي تئن اليوم ألماً ونفاقاً خاسراً جرّاء تواطئها للانقضاض على الأوطان والأمة، وكان التنسيق المتحطّم اليوم بين أمثال برهان وبرنار وأوغلو وحمد دليلاً قذراً.
ونحن في سورية، وأشقاؤنا العرب نتعرض الآن لتحدّ مشترك، ضعُف خلاله للأسف الدور المأمول من تضافر جهود المنظمات والاتحادات والنقابات العربية، في مواجهة التحديات الراهنة، وهذا ما يستدعي مرحلياً تأخير النضال المهني والمطلبي، وأن يتبنّى الجميع – تحت وطأة التحديات – عقائد وطنية وقومية، يُقترب خلالها من النضال الحزبي أو الإيديولوجي للتغلب على التحالفات الهدّامة بأطرافها الأربعة.
ولنا في سورية منظمات ونقابات تجربة عريقة بأبعادها المهنية والوطنية والقومية تحققَ خلالها كثير من المنجزات جرّاء التمثيل الصادق لكافة القوى المنتجة في المجتمع، والتحالف الإيجابي الفاعل مع الأحزاب والقوى الوطنية التقدمية، تحالفاً بعيداً دائماً عن الرعاية والوصاية، كان الهاجس فيه تعزيز الوحدة الوطنية، وترسيخ الديمقراطية الشعبية، وتوسيع دائرة المشاركة في اتخاذ القرار. دون أن نغض النظر عن الأخطاء في الممارسة، وعن الحاجة الى المراجعة النقدية، وإلى تجديد البنى والوظائف والتوجهات.
وهذا لن يتيح مجالاً لمن يحاول أن يقفز فوق المنجز الإيجابي للتحالف النضالي المشترك بين البعث والمنظمات الشعبية والنقابات المهنية في سورية المعاصرة، والذي ستثبت الأيام إمكانية توطيده وتطويره خدمة لمصالح الشعب وقضايا الوطن والأمة.