في استدعاء الخطاب “الخشبي”
د. عبد اللطيف عمران
في زمن الانقضاض على منجزات حركات التحرر العالمية والعربية، وتجاوز حقبة التوازن الدولي والقطبية الثنائية، زمن العولمة الامبريالية وسيطرة خطاب الغرب الجيوسياسي الاستعماري ومناصريه من الرجعية العربية والإسلام الظلامي – وليس الأصولي -. في هذا الزمن تتقدم خطوات مدروسة ومنهجية للانقضاض على الدولة الوطنية القابلة للإصلاح المرحلي أو الجذري دون العنف الدموي المرتزق والمأجور والمرتهن للتدخل الخارجي، ولإرادات وإدارات أثبتت الظروف الراهنة أنها مناقضة للمصالح الوطنية والقومية.
وقد مهّدت قنوات التضليل الإعلامي العربية منها والغربية لتبنّي العنف والدمار وسيلة لتداول السلطة، فطرحت خطاباً مراوغاً ظاهره أن الحرية والسلمية والتظاهر حق مقدّس، وباطنه أن مؤسسات الدولة والأملاك العامة والخاصة، وكذلك الجيش وقوات حفظ النظام ليست حقاً مقدّساً، بل هدف مستباح للإرهاب. وكانت النتيجة الانكشاف السريع للمآلات المريبة والمخيّبة للآمال من المشهد الاحتجاجي الذي أفضى في أغلب اتجاهاته الى مصادرة نزوع الشباب الوطني العربي التحرري لصالح خيارات سياسية مخادعة تقودها مجموعات معارضة مسلحة مدعومة بشبكات إرهاب عالمية. وللأسف فإن هذه المجموعات صارت وثيقة الصلة بالمجتمع الدولي وقواه ومنظماته الكبرى.
ومن البدهي أن تغيير النظام السياسي لا يقترن بتقويض الدولة، ولا باستهداف مؤسساتها بما فيها القوات المسلحة، ولا بالانفلات الأمني، ولا بزعزعة العيش المشترك والوحدة المجتمعية والوطنية. بل إن التغيير والانتقال في هكذا ظروف تمرّ بها الأوطان والأمة بحاجة الى حوار وطني هادىء وعميق لا يرتبط بأجندات خارجية استعمارية رجعية بل بمشروع نهضوي سلمي تقدمي مقترن بخطاب إعلامي موضوعي منفتح من جهة، ومناهض للبترودولار العفن وللقوى الظلامية من جهة ثانية. وليس العكس أبداً.
واليوم يجابه الخطاب الوطني التقدمي التحرري مع أزمة الواقع العربي، خطاباً خشبياً كولونيالياً رجعياً مدعوماً مالياً وتقنياً يكاد يفلح في قلب الحقائق من خلال قدرته على استثارة الغرائز المريضة، وتأثيره السلبي الواضح في المجتمعات العربية، فينبش من الماضي الدفين الحقد والظلام، ويستبدّ ببعض عقول الناشئة ويأخذ بهم ليكونوا أدوات وفتنة وقودها أجيال بريئة تُراهن عليها الأمة لولا التضليل والتآمر والنفاق الذي تمارسه حكومات بات الرأي العام في المنطقة والعالم يعرفها ولا سيما في قطر والسعودية وتركيا.
كما يجابه هذا الخطاب الوطني خطاباً مضاداً يدّعي أن التغيير بحاجة الى دماء غزيرة “ومالو ؟!”، فلا تُستحصد نتائجه إلا بعد زمن، ودون مخاضات عسيرة وطويلة. لكن التاريخ والواقع يثبتان أن حَمَلةَ الخطاب المضاد ليسوا من القوى الوطنية القادرة على تقديم مشروع نهضوي تقدمي واضح، بل هم نخب استمرأت الحياة في ظلال الغرب ومشاريعه وقدّم لها المال والإعلام الخليجي مغريات المأجورية والارتزاق، وعملوا سويةً على تعطيل الحوار الوطني، وعرقلة مشاريع الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي لهدف واضح هو الانتقال الى نُظم بديلة تكون الأوطان فيها مستباحة لديكتاتورية سياسية جديدة إقصائية ومراوغة. ويُستثنى من هذا التغيير فقط النظم المرتبطة بالغرب، لتصبح مصالح الشعب وقضايا الأمة في مهب الريح.
إن خطاب الثورة المضادة هو خطاب الخوف والقلق، فلا حديث فيه عن التنمية والتقدم، والصهيونية والاستعمار والرجعية، هو خطاب مناهض للمقاومة والتحرر والتحرير والحداثة التي عرفها خطاب النهضويين العرب في مطلع القرن الماضي.
والحالة هذه فلا ضير أبداً في خطاب سياسي وإعلامي شعبي تعبوي يقترن بعوامل الحسم والقوة التي تطالب بها الجماهير القيادة السياسية، فخطاب أيديولوجيا الغرب والرجعية والتخلف لا يبدّده إلا استنهاض خطاب أيديولوجيا النضال الوطني التقدمي الذي تحمله وتناضل في سبيله القوى الحيّة في المجتمع والأمة، وعندئذ سيعرف الرجعيون حين تلفح الرياح الحارّة القادمة قريباً وجوههم الهرمة البائسة أي منقلب ينقلبون فيه ندماً وخزياً، وسيعرف الخطاب الإعلامي المرتزق وأعلامه أن الشعوب لا يُصادر وعيها وانتماؤها، ولا يُدفع بها الى الوراء.