إشكالية المفاهيم والقيم بين الرجعية والحداثة
د. عبد اللطيف عمران
في زمن ثورة المعرفة والاتصالات لم يعد ممكناً احتكار المصطلحات والتوصيفات لكل ما يتعلق بالآداب والفنون والعلوم الاجتماعية، وصار ما تراه أنت رجعياً قد يراه غيرك أصولاً، وما يراه غيرك حداثة قد تراه أنت دماراً وأذى.
ولا شك في أن العالم، ومنطقتنا بالتحديد، يعيش اليوم اضطراباً مفهومياً وقيمياً في مسائل عديدة منها ما يتعلق بالوطنية وبالثورة وبالحداثة وبالرجعية… بحيث لم يعد يملك أحد الحق في إطلاق الأحكام العامة. ولهذه الظاهرة أسباب تتصل بالعولمة وبالهيمنة الغربية الجيوسياسية، وبنزوع الى المركزية والقطبيّة.
لكن هناك حدوداً دنيا للاتفاق لا يمكن القفز فوقها، إذ لا يمكن لأحد أن ينشد التغيير أو الحداثة أو الحرية وحقوق الإنسان بأساليب الاغتيال والتفجير وزعزعة العيش المشترك والاستقرار، وعن طريق التدخل الخارجي المدعوم برعاية استعمارية ورجعية محضة، وبأمل صهيوني.
كما لا يمكن أن تكون الأنظمة التقليدية وبمفهوماتها وممارستها الرجعية داعماً للتقدّم والحداثة والتنوير، فلا أحد يصدق أن تتحول مثلاً قيادات دول عربية محافظة الى أدوات ثورية تقدمية تدعو الى الثورة المسلحة على حد قول هيكل بالأمس. فلن يكون سعود الفيصل غيفارا، ولن يكون حمد مارتن لوثر، ولن يكون أردوغان إلا اختصاراً لاستحضار تاريخ مرير من الصراع بين عدد من شعوب المنطقة يتمثل دفعة واحدة في لحظة واحدة وفي سلطان واحد هو هو.
فالرجعية رجعية، والحداثة حداثة، ولم تكن الحداثة في يوم من الأيام في معاداة صارخة مع الدين، فالحداثويون أو النهضويون العرب استلهموا الدين استلهاماً بنّاءً، وقاموا بالتطوير والتحديث بمحاذاته على نحو ما فعل الكواكبي والأفغاني ومحمد عبده…، فلم يفجّروا بناء عاماً أو خاصاً، ولم يستقووا بالأجنبي، بل ناجزوه ومعه الرجعية نضالاً مريراً حتى هزموهما.
وكذلك لم ترتبط الحداثة في الغرب بمعاداة الدين، فقد أسهم فيها الكاهن مارتن لوثر، وحركة الاحتجاج البروتستانتية. ولم نلحظ عند ربان التغيير والحداثة في الغرب والشرق ما نلحظه اليوم عند شيوخ الفتنة وهم يخوضون في دماء الأبرياء بعد أن احتضنهم البترودولار أُجراء أذلّاء.
والحداثويون والرجعيون اليوم يعرفون أن المسألة لم تعد نسبية، وأن عدم الانحياز غير وارد، والموقف الرمادي ضلال، فليست المسألة مسألة ثورة فقط، وليست أيضاً مسألة مؤامرة فقط، إنها مصادرة وعي وهوية وانتماء، وضياع قرار ورؤية، بل تضييع. فمنْ منَ العرب اليوم وغيرهم يستطيع أن يقول: إن التناقضات في مجتمعات المنطقة ودولها هي بين العمال والبرجوازية أو بين الفلاحين وكبار الملّاك، أو بين التقدميين والرجعيين، أو بين الريف والمدينة…؟ ومن يستطيع القول: إن قادة المشهد الاحتجاجي ليس لديهم اهتمام بالوصول الى السلطة، وليسوا إقصائيين أو استئصاليين، وأن همهم النضال ضد الصهيونية والرجعية والاستعمار في سبيل فلسطين والعروبة والإسلام، أو في سبيل التحرر والتقدم؟!
ومنْ منَ الطرفين يستطيع أن ينكر أن لأنظمة الغرب والرجعية وإسرائيل مطامح وغايات في هذا المشهد وفي أدواته وأهدافه ونتائجه، وخير دليل وسائل الإطاحة بالقذافي، إضافة الى دليل آخر – مثلاً – هو نتائج توقيع وزراء الداخلية والعدل الأوروبيين اتفاقية الاستراتيجية الأوروبية لمكافحة الإرهاب والتطرف بعد تفجيرات لندن ومدريد – غزارة التفجيرات في البلدان العربية والإسلامية لا تعنيهم – وبموجبها تم تقسيم التنظيمات الإسلامية الى متطرفة ومعتدلة تقسيماً براغماتياً نجم عنه ازدواجية في المعايير أتاحت للغرب قول شيء وفعل شيء آخر. فاستضافت منها من استضافت، وأقصت من أقصت، والهدف التحكّم بها جميعاً، وحصد نتائج أعمالها على الأرض مستقبلاً ولا سيما في الواقع الراهن، وخاصة بعد أن ساعد المال الخليجي، وضياع الحكومة التركية، على هذا كله.
إن جماهير شعبنا وأمتنا في وعي متصاعد لأبعاد هذه المراوغة، وستكون في مواجهة متنامية لهذا العبث بالهوية والمصير، وسنرى قريباً كيف يخسر وينهزم من يحتكم الى السلاح والإرهاب ضد الحوار والاستقرار.