الأحزاب والمنظمات بين الدور التاريخي والتصدّع الراهن
يثير الدور الراهن للأحزاب والاتحادات والمنظمات الوطنية والقومية والتقدمية على الساحة العربية تساؤلات مريرة مقارنة بتاريخها النضالي المتميّز في دعم حركة التحرر الوطني والعالمي،
وسجلّها الإيجابي مع الحرب العالمية الثانية وبعدها، ولاسيما في قدرتها على استقطاب الوعي الشعبي قبل التنظيم البنيوي، والتصاقها بهموم الجماهير على امتداد ساحات الوطن والأمة. والأهم من ذلك نجاحها في مواجهة المشروع الرجعي الاستعماري الامبريالي، واصطفاف القطاعات الأوسع من فئات الشعب خلفها.
هذا الدور التاريخي عرضة للتصدع الآن، وللانهيار في بعض البلدان، مع ضعف واضح للتيارات القومية واليسارية والليبرالية، حيث يظهر نكوص مريب ومؤسف، وتراجع لايبشّر بخير ولاسيما في واقع عربي معروف لايزال يتعرض للتحديات نفسها التي عاشها في تلك الفترة وأبرزها تحالف القوى الرجعية والامبريالية والصهيونية تحالفاً بدأ يقود ويصادر القرار الرسمي العربي من جهة، ويضلل تطلعات الأجيال وبعض النخب التي تبايع قوى هذا التحالف لأن تكون أصدقاء الشعوب العربية، أو نصيرة لقضاياها المصيرية.
وحقاً إنه لمن المستغرب كيف يرى الناس أن تحالفاً تقوده القوى المضادة تاريخياً لقضايانا وحقوقنا يمكن أن يكون البديل عن المشروع الوطني أو القومي العربي. والواقع يثبت أن مؤتمرات أصدقاء أي دولة أو شعب عربي تآلفت من أطياف هي بالأساس وبالمحصلة أصدقاء اسرائيل أولاً. ومن المستغرب أيضاً كيف تكون دولة على سبيل المثال – قطر – ملاذ المتاجرين بالحرية وبالعروبة وبالمصير الذين يعرفون أن حكام قطر لجأوا في يوم من الأيام الى الإدارة الأمريكية لمساعدتهم ضد السعودية في خلاف نشب بينهما، فأوعزت تلك الإدارة إليهم بأن المدخل الى مساعدتهم يكون فقط من البوابة الاسرائيلية، فكان ماكان ولايزال. والخائن لايكرم خائناً بل يستأجره ويستهلكه ويرميه وهو معه في مزبلة التاريخ، وهكذا صارت بعض حواضر الخليج وتركيا والغرب منبر الجذب والتسابق الخياني.
ولهذا الاستغراب مبررات أهمها عدم قدرة القوى الوطنية والقومية التقدمية على تجديد دورها وتنظيمها وخطابها وصلتها بالشعب، وانكفاء بعضها وإيثاره الصمت أو النأي بالنفس، يُضاف الى هذا ضعف محصولها من المراجعة النقدية قياساً على قدرة بعض القوى والتنظيمات السلفية أن تسجل حضوراً وقوة في الواقع العربي الراهن مدعومة بمركزية غربية مخاتلة، ورأسمال رجعي موظف وتابع لهذه المركزية المتوحشة.
وعلى الرغم من تضافر جهود الأحزاب القومية منذ مطلع الألفية الثالثة لتدارك هذا الواقع، وإقرارها في عدة مؤتمرات لها على الساحة العربية أن المشروع العروبي «يواجه طائفة من التحديات الأساسية التي تتطلب التصدي المعرفي والعلمي والعملي، وابتداع آليات جديدة لحلها، انطلاقاً من أن الفكر القومي واجه معضلات بيّنت له أنه لاوجود لمسلمات ويقينيات فكرية أزلية ميتافيزيقية، فكل شيء يخضع للتغيير والتبدّل والمراجعة- دمشق 2008». على الرغم من هذا بقيت الجهود حبراً على ورق، واستمر السير في التدرج نحو الضعف الى حد الغياب أمام القوى المضادة التقليدية والجديدة.
وفي الواقع فقد سارت الأحزاب والمنظمات ومعها بعض النظام الرسمي العالمثالثي مع موجة عالمية تحت شعار التكيّف والاندماج والحلم بنهاية تاريخ وبداية زمن جديد تصنعه العولمة والشركات متعددة الجنسيات والانفتاح والتكامل فكراً واقتصاداً وسياسة، مع تغييب الهويات والخصوصيات الوطنية والقومية، فجاء القول بنهاية التاريخ في زمن انحسار الماركسية وانهيار أوروبا الشرقية، والإجهاز على منجزات حركات التحرر، زمن الخصخصة والنظام العالمي الجديد، والانتصار المصنوع من التقنية المتطورة والرأسمال المتوحش ومن مفهوم التقدم في الفكر البرجوازي. إنه زمن استسلام الخاسر لخسارته.
في هذا الزمن يرى النظام الرسمي العربي أن قوى المقاومة نقيض الحرية والديمقراطية، وأن العداء لإيران وسورية ليس حاجة أمريكية صهيونية واضحة، وأن القوى الداعمة تاريخياً لإسرائيل حليفة الحق العربي، وأن المعارضة التي ترعاها الاستخبارات الغربية هي الأمل الشعبي مع أنها لاتمتلك خطاباً وطنياً ولا مشروعاً شعبياً نظراً لارتمائها في أحضان القوى المضادة تاريخياً.
إن الواقع الراهن مناسب جداً لإعادة الدور الوطني والعروبي للأحزاب والمنظمات، بل يجب أن يكون فرصة تاريخية لإعادة ضخ الدماء الحارّة في فكرها وعملها، فجماهيرها لاتزال تنتظرها، وعليها أن تلبي نداء الجماهير الواسعة التي ترى أن في بعض مايجري على الساحة العربية والدولية مقدمات وقحة لاستبداد جديد، ولطموح خطير يتمثل في القدرة الناجزة للمشروع الامبريالي الصهيوني الرجعي على التجدد والانتشار.
وبالمحصلة فإمكانية هزيمة هذا المشروع ليست مستحيلة وشعبنا يعرف مصالحه الحقيقية وأعداءه التاريخيين.