البعث في ذكرى التأسيس، تطوير الفكر والممارسة؟
الرفيق د. خلف المفتاح
عضو القيادة القطرية للحزب
في استحضار الذاكرة السياسية العربية يبرز حزب البعث العربي الاشتراكي فصيلاً قومياً حمل مشروعاً نهضوياً للأمة العربية يشتمل كل جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وساعياً لبعث الحياة والحيوية في جسد الأمة العربية المثقل بتركة ثقيلة من قوى استعمارية أمعنت فيه تقطيعاً وشرذمة من خلال القيام بإحيائية حضارية وثقافية وتاريخية تعيد للأمة العربية دورها الحضاري ومكانتها الطبيعية بين شعوب العالم وعبر مقاربة فكرة الوحدة العربية على حوامل جديدة تزيل كل أسباب ومعوقات نهضتها وبث روح التجديد في كافة مفاصل جسدها المترامي على مساحة الجغرافية العربية.
إن أبرز ما يسجل للبعث كفلسفة وقضية ومشروع سياسي هو تحويله لمشاعر العرب وطموحاتهم القومية الى إطار فكري ونظري واضح ومحدد ومنفتح ومرن باتجاه المستقبل الواعد الذي يحمل أبرز الخصائص الحضارية للأمة العربية تاريخاً وثقافة وهوية، وإنه حول الثقافة السياسية الى نضال جسده عبر الواقع ولهذا كله انطلق البعث ينشر فكره وأهدافه على كامل مساحة العروبة فكانت الاستجابة واضحة من خلال انخراط الآلاف من أبناء العروبة في صفوف مناضليه ونجاحه في تحريك الشارع القومي العربي ضد القوى الاستعمارية والتيارات الرجعية التي واجهت المشروع القومي العربي وتنكرت لفكرة العروبة من أساسها.
لقد قرأ رواد البعث الأوائل عناصر المشروع النهضوي العربي الذي برزت إرهاصاته الأولى في منتصف القرن التاسع عشر عبر حواملها التاريخية والحضارية وأرجعوها لثقافة تقوم على التنوع المنسجم والمتناغم والمتسم بخصب الحيوية والتجدد والانبعاث ولم يقفوا من التراث موقفاً تفسيرياً بل تقدمياً وثورياً وأدرك مناضلو البعث أن السبب الجوهري الذي يقف وراء تخلف العرب هو حالة التجزئة والخضوع للسيطرة الأجنبية التي فرضت عليهم وما استتبعته من تراجع علمي وجمود عقلي ومعرفي وضعف في البناء الاقتصادي وانعكاس ذلك على كل عوامل التنمية البشرية وقضية بناء الإنسان وتحرير العقول من كل الشوائب التي تعيق عملية المحاكمة العقلية للظواهر والأشياء.. من هنا استشرف البعث وقياداته التاريخية وعبر تطوره الفكري وتراكم تجربته النضالية مسارالتطور الحاصل في عالم اليوم فاتسم بخاصية التجدد والاستجابة لكل راهن تاريخي ومجتمعي إدراكاً منه أن أية ايديولوجيا لا تتطور فكراً وممارسةوأدوات، تتحول مع الزمن الى ايديولوجيا متخلفة، وإعمالاً لذلك استطاع البعث أن يستجيب استجابةواعية لكل هذه التحديات والمهام فكانت حركة ٢٣ شباط عام ١٩٦٦ فعلاً تصحيحياً داخلياً جنب البعث الانحراف باتجاه يحاكي ويتقمص تجارب وعناوين لا تنسجم مع الواقع العربي وخصوصياته الثقافية والاجتماعية وتطوره التاريخي فكانت الحركة التصحيحية التي قادها القائد الخالد حافظ الأسد عام ١٩٧٠ فتحاً جديداً ونوعياً في مسار الحزب وتجربته في سورية من خلال معادلة تفاعل خلاق بين التجربة السياسية والفكر المنفتح المتسم بالدينامية والاطلاع الواسع والواعي.
ومع هذا التحول النوعي في قيادة الحزب وتكريس نهج منفتح يقارب بين الفكر والواقع وضروراته وطبيعة الظرف السياسي الإقليمي والدولي وجملة التحديات التي تواجه سورية بحكم موقعها ودورها العربي والإقليمي وطبيعة الصراع مع العدو الصهيوني والحاجة لترتيب البيت العربي وفق أولويات الواقع لا الإطار النظري والايديولوجي فقط انطلقت سورية في فضاء عروبي واسع أعمالاً وترجمة حقيقية لفكرة الوحدة والتضامن العربي فرادت سورية العمل القومي حقيقة لا ادعاء فكانت التجارب الوحدوية والاتحادية مع أكثر من بلد عربي ما أكسب البعث زخماً جديداً وانتشاراً واسعاً لأفكاره وتنظيمه على المستويين القطري والقومي واستطاع الحزب من خلال مناخ الاستقرار الذي عاشه على المستويين التنظيمي والفكري والقيادي ونعمت به سورية أمناً واستقراراً ونمواً أن يحقق إنجازات هامة ونوعية تمثلت بالانتقال من الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية على مستوى الدولة والسلطة إضافة للتحول الى بناء ديمقراطي تعددي يقوم على الشراكة في قيادة البلاد عبر مؤسسة الجبهةالوطنية التقدمية.
لقد واجهت سورية والمنطقة العربية والعالم أجمع تحديات مركبة وذات طابع بنيوي خاصة ما تعلق منها بالبيئة الدولية بعد انهيار وتفكك الاتحاد السوفييتي وبروز الولايات المتحدة الأمريكية قوة مهيمنة على المسرح الدولي وانكشاف الغطاء والمظلة الدولية للكثير من دول العالم الثالث وبروز ظاهرة العولمة المتوحشة المرافقة لها ما أدى لسقوط أنظمة واهتزاز أخرى وقلة قليلة هي تلك الدول التي استطاعت أن تحافظ على توازنها وكيانيتها واستقلال قرارها السياسي والسيادي ومن بينها سورية بسبب ارتكازها الى حوامل داخلية في بنيانها الوطني والسياسي ولم تكن تابعاً سياسياً يدور في فلك أحد لاشرقاً ولا غرباً ما جعلها تحتل مكانة هامة في الخريطة السياسية العربية والإقليمية والدولية.
ومع دخول العالم الألفية الثالثة توفرت لسورية وللبعث قيادة شابة وطموحة تحمل مشروعاً واعداً نواته فكر البعث وأدبياته ويحمل ملامح تجديد حقيقي في الفكر والممارسة والإدارة تمثلت بالرفيق الأمين القطري للحزب سيادة الرئيس بشار الأسد الذي قدم مشروعاً تطويرياً وتحديثياً للحزب والدولة وجد استجابة وحماساً واسعاً في الأوساط الحزبية والشعبية وشكل متحولاً هاماً في مسار الحزب والسلطة وثقافة جديدة في الأداء وتطوير الممارسة واستطاع إيجاد تيار شعبي وشبابي واسع قادر على حمله وترجمته إنجازات حقيقية انطلاقاً من كونه مشروعاً وطنياً وليس حزبياً فقط يضع في الاعتبار تطلعات كل الطيف الوطني السوري وهادفاً الاستثمار في طاقاته وخاصة الثروة العقلية وخبرة السوريين المتراكمة سواء في الاقتصاد أو غيره من قطاعات الحياة الأخرى إضافة الى رؤية ونهج سياسي واسع المساحة والدلالة السياسية عبر عنه بشعار المؤتمر القطري العاشر للحزب – رؤية متجددة فكر يتسع للجميع وبدت أهمية تلك الأفكار وجاذبيتها من خلال تحررها من الأطر النمطية الجامدة التي كانت أحد أهم المعوقات في مسيرة الدولة والحزب بشكل عام.
لقد أثبتت مسيرة الأحداث التاريخية أن الحزب وتجربته السياسية والسلطويةوكذلك فكره وأدبياته تصبح أكثر قوة وحيوية كلما خضعت للمراجعة والنقد بهدف تطويرها وإغنائها وتعميقها وتجديدها فذلك يعطيها قوة وزخماً ويخلصها من كل ما يشوبها من مظاهر تراجع أو جمود وخلل في سياق الظروف التاريخية والسياسية والبيئة الدولية التي تمر بها سورية والمنطقة ودول العالم بشكل عام ولعل ما ربط الحزب بالجماهير هو تبنيه لأهدافها وطموحاتها وحاجاتها وكذلك أن النجاحات لم تصبه بالغرور والإخفاقات باليأس إدراكاً منه أن الإخفاقات هي مسألة عرضية وزائلة، ومن هنا تأتي أهمية ما يطرح من الأفكار وصيغ العمل في المرحلة الحالية خاصة وأننا نواجه حرباً غير مسبوقة سلاحها القتل والإرهاب الدموي والفكري والمستهدف فيها الدولة والمجتمع وعلى الأخص جيشنا العقائدي وذلك جنباً الى جنب مع استهداف الهوية الوطنية والفكر القومي العروبي ما يستدعي استجابة واعية على المستويين الوطني والقومي في مواجهة ذلك وهنا يصبح البعثيون والقوميون عموماً في دائرة الاختبار والتحدي لإثبات قدرتهم على المواجهة وتحقيق الانتصار؟