رحيل “الطير” السوري وأحد أعمدة الزمن الجميل- عبد الرحمن آل رشي
يبدو أن الموت الذي اختار أن يخيم فوق سورية في زيارة باتت طويلة، لم يستثن فيها أحداً من أفرادها، فكانت حصة الفنانين السوريين كبيرة بقدر إبداعهم.. هكذا هو الموت لا يزال يمارس طقوسه الموجعة في سرقة قاماتنا الفنية الكبيرة، في الأمس خطف صاحب مقهى باب الحارة “وفيق الزعيم” وها هو اليوم يخطف زعيمها، يخطف فناناً متألقاً، فناناً حفر موقعه على خارطة المشهد الفني السوري بعزيمته وإصراره ونبرة صوته المميزة.
في صباح يوم السبت سقطت ورقة أخرى من دفتر الدراما السورية المتألقة، مودعة الفنان الكبير عبد الرحمن آل رشي، الذي يعتبر ورقة من شجرة عظيمة، فقد كان رجلاً وفناناً من ذهب، وعموداً من أعمدة الزمن الجميل كما وصفه الفنان القدير أيمن زيدان.
في الماضي كان المجتمع ينظر إلى الفن على أنه “كفر”!.. ولكن الفنان عبد الرحمن آل رشي كان يراه أحد أهم الأسلحة الحضارية، وكان يعتقد دوماً أن استخدام هذه الأداة بشكل جيد وواع سيخدم الأمة وقضاياها، فالأمر كان بالنسبة له طموحاً، وربما حلماً، وأصبح بجهوده واقعاً، فلم يكن الفنان آل رشي يمثل لمجرد التمثيل، بل ثمة عقيدة راسخة وخاصة يؤمن بها تجاه الفن، والأعمال التي قدمها تحديداً كان يقوم بانتقائها بعناية شديدة، ومن المستحيل أن يجسد شخصية الرجل الجبان أو الخائف.
اختتم الفنان عبد الرحمن آل رشي مسيرته الفنية بظهور درامي له في مسلسل “قمر الشام” مع المخرج مروان بركات، واليوم يهوي تاركاً وراءه إرثاً للأجيال، فقد كان له العديد من المشاركات التلفزيونية المبكرة قدم من خلالها للدراما العربية مجموعة هامة من الأعمال التاريخية والبدوية والاجتماعية، وقد اشتهر الراحل بكاريزما خاصة ما منحه تأثيراً لا ينسى في أذهان المشاهدين السوريين والعرب نذكر منها “مذكرات حرامي” الذي قدمّه أواخر الستينيات من القرن الماضي تحت إدارة المخرج علاء الدين كوكش، وتعاون معه مجدداً في أحد أشهر المسلسلات البدوية “رأس غليص” في أواسط السبعينيات الذي حقق نجاحاً باهراً ليس في سورية فقط، بل في الوطن العربي أيضاً بعد أن صور بالكامل بعربة النقل الخارجي في منطقة العوير في دبي.. وتسجّل أيضاً ذاكرة الدراما السورية للممثل الراحل آل رشي العديد من الأدوار البارزة منها “الأزرق” في مسلسل غضب الصحراء 1989، و”ريّس المينا” في مسلسل “نهاية رجل شجاع” عام 1993 الذي يعد من كلاسيكيات الدراما العربية، و”جنكيز خان” أحد أبطال مسلسل “هولاكو”، كما كان أحد أبرز نجوم الأعمال الشامية، فقد دافع الفنان الراحل عبر خمسة عقود بفنه عن القضايا العربية، فكان يرى في تقديم هذه النوعية من الأعمال، في الوقت الراهن، ضرورة ملحة، وعلى الفن أن يعيد القيم الغالية المفقودة والعادات الأصيلة المسلوبة، ومن هذا المنطلق وافق على المشاركة في السلسلة الشامية الشهيرة “باب الحارة” في الجزأين الأول والثاني من خلال شخصية الزعيم “أبو صالح” حتى نجح في النهاية بتفجير مشاعر النخوة والشهامة والبطولة في نفوس الجماهير العربية، بالإضافة إلى شخصية أبو جواد في “الخوالي” و”أبو بطرس الزكرتي” في “رجال العز”، و”الحوت”، و”العبابيد”، و”تاج من شوك”، و”جواهر” و”المواسم” و”ملوك الطوائف”، و”الطير” و”زمان الوصل”.
يعد الراحل عبد الرحمن آل رشي أحد أعمدة الدراما السورية والعربية ومن أبرز مؤسسيها وكان عضواً مؤسساً في نقابة الفنانين السوريين، وسجل حضوراً مكثفاً في السينما السوريّة خلال سبعينيات القرن الماضي، فقد كان بطلاً للعديد من الأفلام السينمائية منها “الثعلب” عام 1971، و”اليازرلي”، و”السيد التقدمي”، و”كفر قاسم” 1974، و”الفخ” 1979 وفيلم “المخدوعون”، و”المطلوب رجل واحد”، و”العار”.
كانت لصاحب الصوت الأجش أغنية تعتبر الأولى على مستوى الأغاني الوطنية في العشرين سنة الأخيرة وهي “أنا سوري آه يا نيالي” والتي غناها أواخر التسعينيات، فقد خوّله صوته الرجولي الغناء للوطن عبر مسيرته الطويلة مع الفن، وكانت هذه الأغنية أبرز محطاته الغنائية الوطنية إضافة إلى مشاركته مؤخراً في الأوبريت الوطني “كل شي تدمر رح يتعمر” برفقة عدد من نجوم الطرب والغناء والفن، وكان يتحضر للدخول في ديو آخر الشهر المقبل لكن الموت قال كلمته قبل أن ينهي أغنيته وقبل أن ينهي دوره في تجسيد شخصية “أبو سالم” زعيم حارة “الشاغور” في مسلسل “الغربال” مع المخرج ناجي طعمي.
رحل الفنان السوري عبد الرحمن آل رشي عن عمر يناهز الـ 83 عاماً تاركاً خلفه أثراً جلياً على وطن لطالما تغنّى به ومجّده في كل أعماله. والجدير ذكره أن الراحل آل رشي من مواليد دمشق 7 أيلول عام 1934 وهو من أصل كردي، بدأ عمله الفني عام 1957 وفارق الحياة في دمشق صباح أول أمس السبت، إثر معاناته من مشاكل في الجهاز التنفسي، وبذلك يكون عبد الرحمن آل رشي قد اختتم مسيرةً فنية حافلة، زادت عن 50 عاماً قدّم خلالها عشرات الأعمال السينمائية والإذاعية والتلفزيونية.
جمان بركات