الاستحقاقات الدستورية والصراخ المعادي
يوماً إثر آخر تجدد سورية، وعلى لسان أرفع المسؤولين، احترامها للاستحقاقات الدستورية المختلفة، وضرورة إنجازها في مواعيدها المحددة، ويوماً إثر آخر يزداد السعار الغربي والعربي الرافض، والذي لا يمكن فهم دوافعه، دون العودة، كما في كل حالة مماثلة، وتلك حقيقة جارحة بالتأكيد، للمخابرات الأمريكية التي جزمت وحذّرت، في الآن ذاته، من أن إجراء الانتخابات يعني فوز الخيار الوطني السوري بصورة حاسمة على الرغم من كل الدعم الدولي والغربي الذي يتلقاه الخيار الآخر، ما يعني خسارة صافية لواشنطن وأتباعها، وضياعاً لكل الجهود التي بذلت لوأد هذا الخيار وتدميره.
وبالطبع، وتلك حقيقة جارحة أخرى، فإن ذلك فقط هو ما يستدعي كل هذا الصراخ المعادي للانتخابات، ليس من الأعداء فقط، بل وحتى من جهات كان من المفترض أنها مؤتمنة على حل يرتكز على مسار سياسي ينتهي حكماً بالانتخابات، وبالتالي يتوجب على هذه الجهات، بدل اعتبار الانتخابات تفجر “العملية السلمية” كما قال الابراهيمي، السعي لإقناع الأطراف الأخرى بضرورة المسارعة إلى اغتنام الفرصة السانحة، والمشاركة في العملية، خاصة وأنهم يدعون تمثيل الشعب السوري كله، ما يعني أن حظوظهم ساحقة “للوثوب” إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع التي شنفوا آذاننا سابقاً بضرورة احترامها.
والحقيقة أن هذا الصراخ، يذكّرنا بصراخ سابق، حين رفض السلطان العثماني و”فيلسوفه” الحوار الداخلي باعتباره “ليس الطريق الأمثل للحل”، كما حين نصحت واشنطن بعدم تسليم السلاح، وأيضاً حين رفض وزير الخارجية الفرنسي الأسبق آلان جوبيه قانون الأحزاب السوري الجديد ووصفه “بالاستفزازي”، دون أن يعرف أحد وقتها هل يستفز هذا القانون الأحزاب الفرنسية أم الأوروبية، أم أحزاب بلاد الواق واق مثلاً ؟.
والحق فإن هذا الرفض المسعور لأي خطوة تؤدي إلى استقامة مسار الدولة السورية على سكة التعددية السياسية التي رسمها الدستور الجديد، ناتجة عن معرفة هؤلاء بأن ذلك يعني، بالمحصلة، السماح لمبدأ تداول السلطة ديمقراطياً أن يأخذ مجراه ومداه بحسب الإرادة الشعبية التي تعبّر عنها صناديق الاقتراع بدل صناديق الرصاص، ما يعني أيضاً ابتعادهم أميالاً عن هدفهم الحقيقي، الذي “يستميتون” لتحقيقه، سواء بالسلاح أم بمسلسل جنيف بحلقاته المتعددة، وهو بالتأكيد ليس تسليم القرار في البلد للشعب عبر الانتخابات، بل تنفيذ “وعد هيلاري” حين أشرفت على “توليد” ائتلاف الدوحة، بتسليم البلد والشعب لأتباعها، وبالتالي السيطرة على قرار سورية المستقل “وإضعافها” بهدف تغيير سياستها التي تلبي مصالح الشعب السوري ولا تتماشى مع مصالح الولايات المتحدة والغرب في المنطقة”، كما قال السيد الرئيس منذ يومين.
أما المواجهة الناجعة لذلك، فهي، كما تشير الوقائع، عبر مسارين، الأول ميداني، وله رجاله الذين جددوا كلمتهم بالأمس في القلمون، والثاني سياسي ويمر بطريقين، المصالحات الوطنية المستمرة والحوار الداخلي من جهة، واحترام المواعيد الدستورية من جهة أخرى، وهنا من المهم التأكيد على أنه للسوريين فقط حق إبداء الملاحظات على أي خطوة سياسية، ولهم وحدهم مناقشتها وتفنيدها، قبولاً أو رفضاً، تغييراً كاملاً أو تعديلاً جزئياً، وبالتالي من حقهم على المسؤولين العمل كي تؤسس الانتخابات المقبلة لعمل سياسي تعددي نزيه وشفاف، كما من حقهم وواجبهم أيضاً، الطلب من المرشح الإعلان عن انحيازاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ونرى، وهذا أمر مطروح للنقاش، أن هناك أولوية داهمة لانحيازين أساسيين، الأول لصالح عروبة إنسانية مستنيرة، ففي ذلك فقط تعبير عن قدر سورية ومقومات وجودها وسط هذا المحيط المضرب بالمشاكل الطائفية والمذهبية والعرقية، والثاني لصالح الفئات العاملة ورأس المال المنتج وليس الطفيلي، والأهم لصالح الفقراء الذين قدموا في هذه الأزمة، وكل الأزمات السابقة، دماءهم وحياتهم كي تبقى سورية وتستمر، فهم ملح هذه الأرض وسمادها في الآن ذاته.