أخطر أشكال الفساد يتمثل في التلاعب بالعطاءات الحكومية وتسهيل القروض والرشوة د.مرهج: 80٪ من قيمة الفساد لا يعاد ضخّها في الناتج المحلي نتيجة التفنّن في إخفائها؟!
يبتلع الفساد وسطياً ما نسبته 30% من الناتج المحلي السوري سنوياً البالغ نحو 900 مليار ليرة، و80% من قيمة هذا الفساد (الفساد الكبير) لا يعاد ضخها في الناتج المحلي من جديد، لتفنّن بعضهم في تهريبه إلى الخارج، أو لجوئهم إلى الاكتناز بشراء الذهب كملاذ آمن، أو تحويله إلى عملات أجنبية أو في شراء العقارات، وهذا يعني حسب رؤية الباحث الاقتصادي الدكتور عمار مرهج، خروج هذه الكتلة المالية الضخمة عن التداول السوقي في كل الأحوال، وبالتالي يؤدّي إلى تراجع عدالة توزيع الثروة، وحصرها بأيدي قلة من السوريين.
من هذا المنطلق عدّ مرهج في كتابه الصادر حديثاً تحت عنوان “الفساد الخطر الأكبر”، تجفيف نبع الفساد من أولويات الحكومة الحالية، لأن ميزانية الفساد اليوم تضاهي إجمالي ما ترصده الدولة في ميزانيتها السنوية طوال السنوات السابقة.
استغلال المنصب
ثمة أشكال للفساد في سورية، يرى الباحث أن استغلال المنصب العام من أكثرها انتشاراً، حيث يلجأ بعض ممن هم في مواقع المسؤولية إلى استغلال مواقعهم ومناصبهم لتحقيق مكاسب مادية، وهؤلاء يتحوّلون مع مرور الزمن إلى رجال أعمال وشركاء في تجارة يديرون أعمالهم وأموالهم إلى جانب كونهم مسؤولين حكوميين؛ ومن أشكال الفساد، الاعتداء على المال العام، وغالباً ما يقوم بهذا السلوك مسؤولون في الجهاز المصرفي، كتسهيل حصول رجال الأعمال والتجار على قروض بفوائد منخفضة دون ضمانات مقابل حصولهم على جزء من القرض على سبيل الرشوة، أو العمولة، كذلك التلاعب في تقدير قيمة الضمان المقدّم مقابل الحصول على قرض، واعتبر الدكتور مرهج الرشوة في المرتبة الثالثة كأخطر أنواع الفساد انتشاراً، وتحديداً الرشوة الضخمة التي تدفع إلى الجهات الحكومية المعنية بمشروع ما من رجل أعمال لترسو المناقصة على شركته لتنفيذه، وتتم عن طريق عقود بالتراضي أو بكشف أرقام العطاء أو بحجب هذه المناقصات وشروطها، وبذلك يتقدم أشخاص محدودون إلى هذه المناقصات يرتبطون فيما بينهم بمصالح مشتركة أو يتناوبون على هذه المناقصات.
ومن أشكال الفساد المشابهة لهذا النوع، ما يسمّى الفساد في الدراسات، من خلال قيام مؤسسات بإبرام عقود مع شركات أجنبية لإجراء دراسة حول مشروع ما، ويذكر الباحث وجود العديد من الدراسات التي أجريت دون أن تنفذ مستقبلاً على أرض الواقع وكلفت خزينة الدولة مليارات الليرات، حيث تبين لاحقاً أن الغاية منها سرقة المال العام، وتساءل مرهج، لماذا لا تتم هذه الدراسات بخبرات محلية؟ ومَن المسؤول عن صرف هذه الأموال؟.
الهدر الاقتصادي
إلا أن الباحث يرى أنه مهما تعدّدت مكونات الفساد وأسبابه فإن نتائجه تصبّ في وعاء واحد هو الهدر الاقتصادي للموارد المادية والمالية للمجتمع، وأن لهذا الهدر آثاراً مباشرة وغير مباشرة، مباشرة تتمثل بالهدر وغير مباشرة تتمثل بالخسائر الاقتصادية المحتملة التي كان من الممكن الحصول عليها عن طريق استغلال المبالغ التي تمّ هدرها، فالمبالغ المهدورة بسبب الفساد لو تم استثمارها ستؤدّي إلى إنفاقات استهلاكية متتابعة تؤدّي بدورها إلى خلق دخول متراكمة تصل إلى ما يزيد على 4 أمثال حجم المبالغ المستثمرة، وبالتالي دخول أكثر زيادة في الناتج إذا ما أخذنا بعين الاعتبار تحفيز الإنفاق الاستهلاكي للطلب الاستثماري لمواجهة الطلب الاستهلاكي، وهذا بدوره يؤدي إلى تزايد الاستثمار ما يخلق المزيد من الدخول والناتج ويرفع من معدلات النمو الاقتصادي، كما أن موضوع التهرّب الضريبي أخذ حيّزاً واسعاً من الفساد المنتشر، ويقول الدكتور مرهج في تناوله لهذه القضية: إن التهرّب الضريبي لا يتمثل فقط في اقتصاد الظل الذي يشكل حسب الحكومة 40% من الاقتصاد السوري، وإنما في الإعفاءات التي منحت لأصحاب رؤوس الأموال في ظل اقتصاد السوق، والمؤسف أن هؤلاء لم يقيموا مشاريع إنتاجية -بكل ما للكلمة من معنى- واقتصروا على الشركات الخدمية (النقل، والمطاعم، والمقاصف) وتم منح هؤلاء تسهيلات كبيرة منها الإعفاءات الضريبية.
حرية التصرّف بالمال
ويشير الباحث إلى عدة أسباب أدّت إلى تنامي الفساد من أهمّها تمتع المسؤولين بحرية واسعة في التصرف وبقليل من الخضوع للمساءلة؛ وأن الدافع وراء سلوك بعض المسؤولين الفاسد هو الحصول على ريع مادي، يساعدهم على تحقيق هذا الكسب غير القانوني، ومن الأمثلة على ذلك قيود التجارة (الرسوم الجمركية، وحصص الاستيراد والتصدير المجزي، وقائمة المسموح والممنوع استيراده)، وبيّن مرهج أن أحد أهم أسباب تنامي الفساد يعود إلى طبيعة المجتمع السوري ودور العلاقات الشخصية في الحياة الاجتماعية، فالمحاباة والمحسوبية والعلاقات الشخصية وعلاقات القرابة من الأسباب أيضاً لانتشار هذه الآفة؟!.
ويختم الباحث بنتيجة مفادها أنه قيل الكثير في مكافحة الفساد لكن الأقوال لم تقترن إلا بالقليل من الأفعال، ما أدّى إلى تجذّر الفساد واشتداد عوده بدلاً من أن يتقهقر وتنكسر شوكته، وأصبح ثقافة سائدة وحالة قائمة معترَفاً بوجودها، ومشكوّاً منها رسمياً وشعبياً، ومطلوباً ومرغوباً وواجباً مكافحتها للحدّ من انتشارها العمودي والأفقي والكمّي والنوعي، وتحجيم وتقزيم منعكساتها السابقة والآنية واللاحقة.
وبدأ الدكتور مرهج مؤلّفه الجديد “الفساد الخطر الأكبر!”، الذي قام بالتقديم له الدكتور سمير صارم عضو جمعية البحوث والدراسات في اتحاد الكتاب العرب، بتعريف الفساد، وبفصل مفصّل حول الرشوة والمحسوبية كصور للفساد، وما هي البيئة الملائمة له، والآثار المترتبة على الفساد القضائي، والفساد الإداري، وتناول الباحث بشكل موسّع قضايا الحوكمة والفساد، وأشار إلى الأساليب والطرق التي تنمو فيها الأموال القذرة؟!.
دمشق – سامر حلاس