غابرييل غارسيا ماركيز.. وداعاً
“الحياة ليست ما يعيشه أحدنا، وإنما ما يتذكره، وكيف يتذكره ليرويه”، إنها واحدة من ألغازه الكثيرة التي أودعها ماركيز في كتبه قبل أن يغيّبه الموت، لكنه سيخّلده بتراثه الفكري والإنساني.
الكاتب غابرييل غارسيا ماركيز اليوم يبكيه القراء العرب قبل سواهم لأنه إذا كان من أديب عالمي يمكن اعتباره “عربيا” بامتياز، فهو ماركيز الذي عُرف بموقفه المنافح عن القضية الفلسطينية، وهو واحد من مواقف كثيرة مضيئة في سيرته الحافلة بالمبادرات الخلاّقة. ماركيز يعد أحد أعظم الأدباء في القرن وهو المنتشر عالميا، قُرئت أعماله مغربا ومشرقا. وهو روائي وصحافي وناشر وناشط كولومبي، ولد في السادس من آذار عام1927 في كولومبيا، وتوفي في السابع عشر من الشهر الجاري عن عمر يناهز 87 عاما بعد معاناته من مرض ألّم به.
بدأ ماركيز عمله مراسلا صحفيا، وكثيراً ما أشار إلى أهمية التحقيق الصحفي في بلورة مشروعه الروائي ورفده بوقائع كانت بمثابة المادة الخام لرواياته، وكان صاحب أشهر عامود صحفي لسنوات طويلة في الصحف الناطقة بالاسبانية، وقد جمع ما كتبه في أربعة مجلدات. وفي السينما، أنجز ماركيز أكثر من ورشة لكتابة السيناريو في مدينة مكسيكو. ويمكن القول إن تمازج الكتابة الصحافية وكتابة السيناريو والرواية منحت نصّه السردي ثراءً منفرداً، ينطوي على صورة بصرية في المقام الأول.
تعلم ماركيز من جدته الحكايات الشعبية والخرافية فحدّثته عن الأسلاف الموتى والأشباح والأرواح الراقصة بأسلوب تجريدي تبناه لاحقا في معظم رواياته. كتب أولى رواياته في سن الـ23، متأثرا فيها بأعمال ويليام فولكنر لكنها قوبلت بالكثير من النقد. وفي عام 1965، لاحت لماركيز فكرة كتابة أول فصول رواية “مئة عام من العزلة” وهي رواية رائعة مؤلفة من 1300 صفحة، وبيعت الطبعة الاسبانية الأولى من روايته خلال أسبوع، وعلى مدار الثلاثين عاما التالية بيعت أكثر من ثلاثين مليون نسخة من الرواية وُترجمت إلى أكثر من ثلاثين لغة. وقد أثّرت هذه الرواية في كثير من الأدب الروائي خصوصا في العالم الثالث، وأعطت دفعة لأدب أمريكا اللاتينية. وبعد نشرها في العام 1967، حّلق اسم ماركيز في عالم الرواية حيث يمزج فيها الأحداث المعجزة والخارقة بتفاصيل الحياة اليومية والحقائق السياسية في أمريكا اللاتينية، وقد اعُتبرت في اللغة الاسبانية واحدة من أهم الأعمال الكلاسيكية، وكان لها تأثير هائل لدرجة أن صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية قالت إنها أول عمل أدبي، بجانب موسوعة غينيس، يجب على البشرية كلها قراءته.
أحيا ماركيز سحر أمريكا اللاتينية وتناقضاتها المجنونة في أذاهن الملايين، وأصبح رائداً للواقعية السحرية وأحد المدافعين الرئيسيين عنها متأثراً بقصص جدته المليئة بالخرافات والجنيات، والسرديات الواقعية لجده الكولونيل الليبرالي الذي طبع مزاجه السياسي فوقف إلى جانب الثورات وحركات التحرر. وشكّلت كتابات ماركيز جزءاً من الهوية الأمريكية اللاتينية، إذ يشتمل إنتاجه الأدبي عدداً من القصص والروايات إلى جانب كتابات أخرى تتناول معظمها موضوعات البحر وتأثير ثقافة الكاريبي والعزلة. عمل ماركيز ببسالة على فضح تاريخ الحروب والدكتاتوريات في القارة المشبعة بالأسطورة والأبطال والطغاة، ومواقفه المناهضة للاضطهاد والعنصرية في أنحاء العالم، وعدائه للاستعمار الأمريكي، كما تسببت صداقته مع الزعيم الكوبي فيدل كاسترو بالكثير من الجدل في عالمي الأدب والسياسية. حصل ماركيز على جائزة نوبل في الأدب 1982 تقديرا للقصص القصيرة والروايات التي كتبها والتي يجمع فيها بين الخيال والواقع في عالم هادئ من الخيال المثمر، والذي بدوره يعكس حياة وصراعات القارة. اشتهر بروايات عديدة مثل: (مئة عام من العزلة 1967) و(الحب في زمن الكوليرا 1986).و”الجنرال في متاهته” و”خريف البطريرك”…وغيرها. امتُدح ماركيز لجودة وثراء لغته النثرية التي استخدمها للتعبير عن خياله الخصب الفياض وقد رثاه الرئيس الكولومبي بقوله: “العظماء لا يموتون أبداً”.
وداعاً ماركيز، رحلت عن هذه الأرض لتزيدها وحشة وعتمة.
إبراهيم أحمــد