تحت خط الحكمة!!
لعلنا مسكونون بالخوف والتوجّس من كل ما يمت بصلة إلى السيولة النقدية، فهي خط أحمر دوماً في تعاطينا مع أعمالنا ويومياتنا، إن على المستوى الحكومي العام، أو على المستوى الفردي الشخصي، وعلى الأغلب هنا يكمن منشأ معظم المشكلات التي تعصف بنا، بدءاً من أدق التفاصيل في العمل التنفيذي، وصولاً إلى المشهد التنموي العام.
فنحن من ينظر إلى السيولة النقديّة كهدف، فيما هي وسيلة للوصول إلى هدف، وهي وقود تنموي وليست التنمية بحد ذاتها، لذا فاخرت حكوماتنا مراراً بموجودات الخزينة العامة، وبملاءة المصارف وحجم الإيداعات الكلّية فيها، معتبرة ذلك مؤشرات عافية، فيما هي مؤشرات وهن اقتصادي في البعد التخطيطي والتنفيذي، والأبعاد الأخرى ذات الصلة بالكفاءة في إدارة الموارد، لأن حجب الوقود عن” المحركات التنموية” يعني التعطيل المباشر لها، وهذا أكبر خطأ وقعنا فيه وما زالت حكوماتنا تصرّ عليه في مخالفةٍ عجيبة لكل أدبيات وأعراف الاقتصاد والتنمية!!
أكثر من ذلك يتحدّث بعض رجالاتنا التنفيذيين ومعهم” مفوّهون اقتصاديون” عن عجوزات وزارة الخزانة الأميركية، والمديونية العامة هناك، ويطلقون الأرقام على سبيل “الشماتة” بانحدار أكبر اقتصادات العالم، متجاهلين أن في بلاد “القراصنة” أخبث إدارة اقتصادية في هذا العالم، تدرك تماماً كيف تفرغ خزائنها من السيولة في خدمة التنمية بأبعادها المتشعبة، بدليل أنهم الأكثر مديونية لكنهم الأكثر نمواً أيضاً. فالعبرة ليست في أرقام الدين العام، بل في أرقام التنمية، لأن الاعتبار الثاني هدف، فيما الأول وسيلة لتحقيقه.
من هنا لا يبدو من الحكمة اكتناز المال، إن على مستوى الحكومات أو المؤسسات أو الأفراد، وإن كان لا بد من اكتناز فليكن اكتناز كتل وموجودات ثابتة، وليست سائلة، وإلّا ستكون عوامل التضخّم وتآكل القوة الشرائية لوحدة النقد، بالمرصاد لكل ليرة أو قرش مُكتنز، وربما هذا ما وقعت فيه حكوماتنا، فيما تلافاه كافة رجال الأعمال، بل وبعضهم أثرى من استثمار الأموال الحكومية المجمّدة، والأموال المتراكمة كإيداعات مصرفية، حارت حنكتنا التنفيذية في استثمارها، فاخترنا المفاخرة بها على هامش المفاخرة بأننا دولة بلا مديونية أو من الدول الأقل مديونية في العالم!!
الآن نحن أمام متغيّر جديد، أو ربما أفق جديد اسمه وعنوانه إعادة الإعمار، وهذه نعتقدها فرصة أو مناسبة لتوطين آليات وذهنيات جديدة في التعاطي مع أعمالنا، وعلينا أن نُسقط من حساباتنا السؤال العريض الذي بات على كل لسان، والذي يستفسر عن مصادر التمويل أو مصادر السيولة اللازمة لهذا المشروع الوطني” العملاق”، وعلينا أن نتفرّغ جميعاً أفراداً وباحثين ومؤسسات وحكومة، للإجابة عن سؤالٍ أهم بكثير، يستفسر عن خطط وبرامج إعادة الإعمار والآليات التنفيذية حتى التفاصيل الدقيقة تبدو على درجة من الأهمية، أكثر بكثير من موضوع مصادر التمويل، ونصرّ على وجهة نظرنا رغم أننا على بيّنة من حقائق خزينتنا الخاوية تقريباً مما يفي بمتطلبات الاستحقاق القادم وهو من طراز التحدّيات الصعبة، وسنكون أمام خيارات كثيرة في مصادر التمويل، لأن مشروعنا فرصة استثمارية دسمة لمن نمنحهم ” امتياز” الخوض فيه، فليصمت قليلاً المتوجسون، لأن هواجسهم باتت تشويشاً تنموياً وليست تفكيراً استراتيجياً، وحسبنا أن نكون أمام فرصة لطي إملاءات ذهنيات الادخار المرضي، التي تعسّفت بمواردنا وأفقنا التنموي، وفوّتت آلاف الفرص على اقتصادنا الكلّي، بل نعوّل على المرحلة الجديدة في أن تقتنع وزارة المالية بإيجاد فرص استثمارية حتى للموجودات أو المدخرات الفرديّة الصغيرة، عبر التحضير لسندات دين أو أذونات خزينة بفوائد مجزية، ومن ثمّ تجميعها وزجّها في الميدان التنموي – وليتأكد كل من يسأل أن في هذا البلد متمولين كباراً مستترين في كواليس الفقر المزعوم – لأن المتعاقبين على هذه الوزارة أضاعوا رشدنا بالحديث عن نياتهم البيضاء في هذا الاتجاه، لنكتشف أن الظواهر الصوتية و”الرقص” أمام أضواء الإعلام تصنع وهماً تنموياً وليس تنمية حقيقية!!
ناظم عيد