العقل الأنثوي والمرأة في ضوء العلاقات بين الجنسين
ربما كانت خصوصية الحياة الاجتماعية، وتعقدها من العوامل التي منعت الإنسان من إمكانية قوننتها، وهنا تكمن الصعوبة في التعامل مع المشكلات الاجتماعية التي تظهر في كل حين تبعاً للمجتمع ودرجة تطوره، من هنا يسعى الثلاثاء الاجتماعي في كلية الآداب إلى اختيار المواضيع المهمة، والأكثر حساسية في الواقع الذي نعيشه، وقد اختار مؤخراً موضوعي العقل الأنثوي والمرأة في ضوء العلاقات بين الجنسين، حيث قدمت د. أمل دكاك، رئيسة قسم علم الاجتماع، تمهيداً تضمن بعض الأقوال عن الأم للشاعرين: خليل مطران، ونزار قباني، وتساءلت دكاك: ما سر هذه المرأة التي شغلت الأدباء، والفلاسفة، والمفكرين على مر العصور؟ وما هذا العقل الأنثوي الذي تحمله هذه المعطاء؟.. هذا التمهيد صب في لب الموضوع الذي ناقشه كل من: د. عماد فوزي الشعيبي، ود. هاني عمران: «كل كائن نصف أنثوي، وآخر ذكري».
وحملت محاضرة د. الشعيبي عنوان “العقل الأنثوي”، وميّز فيها بين ثلاثة مصطلحات: الأول “فيمينزم”، وهو حركة نسوية ظهرت في القرن 18 تطالب بالمساواة بين المرأة والرجل في الحقوق، مع الدعوة لإلغاء الفوارق النوعية بين الرجل والمرأة، ورأى الشعيبي أن هذه الحركة حملت في داخلها وهماً مرده طبيعتها نفسها، لأنها كانت حركة نسوية سياسية مطلبية، وليست علمية، لأنها لم تستطع إلغاء أن هناك فروقاً بيولوجية بين الذكر والأنثى، خرج بعدها مصطلح الجندر، “الجنوسة” الذي يعترف بالفروق بين الذكر والأنثى على مستوى التشريح، إضافة إلى أن الخبرات الاجتماعية تحدد أن الرجل “رجل”، والمرأة “مرأة”، وهذا طُويَ أيضاً منذ نحو 15 عاماً، كما يؤكد الشعيبي بظهور تيار الأنوثة “فمنن” الذي يرى أن كل كائن فيه نصفان: الأول أنثوي “الأنما “، يمثله نصف الدماغ الأيمن، كون الأنثى تعتمد على هذا النصف أكثر، ونصف ذكر “الأنيموس”، يمثله النصف الأيسر، كون الرجل يعتمد على هذا النصف أكثر، فالنصف الأيمن يعمل على الشعور، والحدس، والتفكير الانبثاقي، أما الجانب الأيسر فهو مسؤول عن الجانب المنطقي، والسيرورة، وكلا النوعين لديه مميزات استثنائية.
الشخصيات العبقرية لانمطية
ومن هنا فإن الشخصيات العبقرية هي شخصيات لانمطية تستخدم التسلسل على النصف الأيسر من الدماغ، وتأتيها إلهامات لانمطية خارجة عن المألوف على النصف الأيمن، وتربط بين نصفي الدماغ ألياف عصبية، إذا استئصلت، عَمِل كل جانب من الدماغ منفرداً ليحدث الفصام، كما قدم الشعبي بعض الأمثلة عن دراسات، وأبحاث حول ما طرحه منها دراسة “لكيمورا” التي تؤكد أن الرجل يتفوق على المرأة في إنجاز الأعمال الرياضية، والاستدلال على الطريق في المتاهة، في حين أن النساء أسرع في التعرف على الأشياء المتجاورة المتماثلة، كما أن المرأة تقرأ تعبيرات الوجه، والسرائر أفضل، وهناك دراسة لـ “لوفي” أن الميول الجنسية المثلية ليست ذات طابع اجتماعي، لأن المسؤول عن الفعل الجنسي، الهيبوتلاموس، مع حجم قرن آمون في الدماغ، وهو لدى المرأة أصغر منه لدى الرجل، واختلاف حجم قرن آمون عن الطبيعي يولّد نوعاً من الشذوذ، وختم الشعيبي بفكرة أن المجتمع لا يصنع ذكورة وأنوثة، بل يصقل الأداء.
الانقسام ظاهرة صحية
بدوره تحدث د. هاني عمران عن “المرأة في ضوء العلاقات بين الجنسين”، مؤكداً أن انقسام النوع البشري إلى ذكور، وإناث ظاهرة صحية مرتبطة بتدبير حياة الناس، وتسيير شؤونهم، معتبراً أن السجال حول هذه الظاهرة لم يتوقف لا في الماضي، ولا في الحاضر، وهذا الانقسام يعني أن هناك هويتين متمايزتين: الذكورة، والأنوثة مقابل الهوية الإنسانية المشتركة لكليهما، ويتطلب التصنيف إجراء عملية مقارنة تقتضي علاقتين هما: علاقة الهوية، والمساواة، والتشابه من جهة، وعلاقة الاختلاف، واللامساواة، والتباين من جهة أخرى، وبفضل علاقة القوة التي تحكم العلاقات الإنسانية، فإن الجنسين مضطران للتفاعل وفقاً للمصالح والحاجات، لتدخل علاقة جديدة هي التراتب، والتدرج، كما ميّز عمران بين مصطلحي الجنس الذي يشير إلى جملة الاختلافات في الخصائص البيولوجية الفيزيولوجية، والسيكولوجية، ومصطلح الجنوسة، وهو المعنى الاجتماعي الثقافي الذي يعطى لهذا الاختلاف، والذي يكسب الهوية الجنسوية، وتقسيم الأدوار الاجتماعية بين الجنسين، ويتضمن عملية تراتب تمنح المكانة الأرفع، والأدنى لأحد الجنسين، وهنا مكمن الخطر.
الاختلافات في الهوية والأدوار
وطرح عمران تساؤلاً مفاده: هل تؤدي هذه الاختلافات في الهويتين إلى أدوار، وسلوكيات مختلفة، معتبراً أن التفسيرات البيولوجية القائلة بالحتمية البيولوجية لم تفلح حتى الآن في تفسير الاختلافات في سلوك الجنسين، وأدوارهما، ومنزلتهما، ومكانتهما، فالأدوار الاجتماعية عائدة إلى الاعتبار الاجتماعي، وليس إلى الفارق الجنسي، والتفسير الاجتماعي القائم على تأثير التنشئة الاجتماعية له صيغ متعددة، منها أن الناس يدخلون عبر عمليات التنشئة الاجتماعية الجنوسة إلى شخصياتهم، فتتشكل الهوية، والأدوار الجنسوية، وتقوم المؤسسات بتعزيز ذلك، وهنا توقف عمران عند نقطة في غاية الأهمية، وهي أنه يجب ألا نخلص من الحتمية البيولوجية لنقع في حتمية اجتماعية، لأن الإنسان وليد المجتمع لكنه يشارك في صنع نفسه، والدليل اختلاف الاخوة وحتى التوائم في نفس البيئة، وبالحديث عن مدى رضا الناس عن هوياتهم الجنسية، اعتبر عمران أن نسبة قليلة تعتقد أنها في المكان الخطأ، لكن، حتى الراضون عن هوياتهم نجدهم غير مقتنعين بنصيبهم الجنسوي من الهوية التي هم فيها.
كما تحدث عمران عن العلاقات المتوترة عبر التاريخ بين الجنسين والفترة الأولى للنظام الاجتماعي الأمومي، حيث كانت السيطرة فيه للأم واحتل الجزء الأكبر من تاريخ البشرية ليأتي النظام الذكوري الأبوي والذي بلغ أقصى درجاته في تشييء المرأة واستلاب إنسانيتها، ويؤكد عمران أننا نعيش العصر الذكوري في آخر مراحله والنتيجة التي خلص إليها عمران أن حل قضية المرأة يكون من زاوية العلاقة الإنسانية وإخضاعها لمعايير حقوق الإنسان.
وبناء على ما سبق أقول: إن ما ناقشه كل من د. الشعيبي ود. عمران في غاية الأهمية، لكن بالتوقف قليلاً عند ماطرحه الشعيبي، عندما تحدث عن علاقة حجم قرن آمون ببعض أشكال الشذوذ، ربما وقع إلى حد ما بحتمية بيولوجية وأغفل ما للبيئة الاجتماعية من دور في السلوك، خاصة وأن الأمثلة كثيرة على دور البيئة، فبالرغم من وجود مشاكل بيولوجية قد تؤدي في أحيان كثيرة لأشكال ما من الشذوذ في السلوك، إلا أنه كثيراً ما كان للبيئة الاجتماعية السليمة دورها في تقويم هذا السلوك الشاذ والتقليل منه، وهذا يلغي الحتمية البيولوجية ويثبت خطأها، وبالمقابل، كثيراً ما نجد أشخاصاً يمارسون السلوك الشاذ رغم خلوهم من المشاكل البيولوجية ومرد ذلك في أحيان كثيرة إلى البيئة الاجتماعية غير السليمة التي نشأ فيها مثل هؤلاء الأشخاص.
أما ما تحدث به د. هاني عمران من أن العصر الأبوي “الذكوري” في نهايته لم يذكر المعطيات التي استند إليها في ذلك، وإن كان هذا الكلام دقيقاً ما البديل عن ذلك ؟ هل سيعود النظام الأمومي مجدداً أم أن نظاماً آخر سيكون؟ وإن كان النظام الذكوري في نهايته، ما الجدوى من طرح قضية المساواة، ذلك أن قضية المرأة في هذه الحالة ستحل تلقائياً، وسيكون من الأجدر البحث عن حلول للمشكلات التي سيفرزها النظام البديل عن النظام الذكوري. أما النتيجة التي خلص إليها عمران من أن حل قضية المرأة سيكون من زاوية العلاقات الإنسانية وإخضاعها لمعايير حقوق الإنسان، هنا برأيي ربما أغفل عمران أن الحل الأول لهذه القضية يبدأ من الأسرة، ويكون ذلك عندما تنتهي علاقات التمييز من قبل الوالدين بين الصبي والبنت، وعندما تكف الأسرة عن أن تغرس بشكل مباشر أو غير مباشر في نفس الصبي بأنه المسيطر ويحق له كل شيء، وبنفس الوقت عندما تكف عن أن تغرس في نفس البنت أنها أقل وأنها تابعة. تلك النظرة التي تترسخ وينقلها الصبي والبنت إلى أطفالهما عندما يشكلان أسرهما، لتتكرر المأساة من جديد، ولاحقاً قد يكون للقوانين وحقوق الإنسان دور مكمل لدور الأسرة.
جلال نديم صالح