“مزيج” للشاعر بشار عيسى.. كيف يطلع الصبح والقصائد تنام في شعرها
معاناة لشاعر يراهن على بلورة القصيدة، وهندستها، مشغوف بكل ما استجد من الألفاظ، واللغة، والمعاني، في تجربة تضج بالهياج الداخلي، يقدّمها الشاعر بشار عيسى وهو يطرق بلهاثه أبواب الفراغ، بدمدمات شاغلتها أمور الحياة التي عاشها بكل خواصرها، وجبهاتها المؤلمة، قهر، وصمت، وشبابيك تناوبها الشقاء، وحوارات صاخبة لا تجدي، وآخر الليلة، كل يروح إلى منفاه؟!
وحيناً يلوحون لبعضهم البعض بقبضات الأيدي، نكاية، وشماتة، من أجل عيون ومضة شعرية اقتنصها شاعر قبل الآخر، وراح كباشق يطارد العصافير، ناصباً الأفخاخ للآخرين الذين لم ينالوا تصفيق جمهور الشعر في الأماسي التي كانت تغص بها المراكز الثقافية في دمشق– سلمية، وبعض مطارح ريفنا الطيب.
تتباعد تجربة بشار عيسى الشعرية، وتتنحى عن مقولة الوضوح في تعبيرها حيث لا ترتخي في شد حبالها ما بين الاستسلام للسهولة، أو المجانية البعيدة، أو التي ليست أصلاً من مكونات “القصيدة النثرية” تتقارب وبشكل حميمي مع المفاهيم المألوفة في الشعر، وتتصادق معها في لغة الحياة والفن والكون، لا يمازح الشاعر حين تأتيه الومضة، والرعدة الشاعرة، تتداخل بين مقطعات قصائده، الأبعاد الفلسفية، ورؤياه دائماً تبرق بسحائب ماطرة!
الشاعر عيسى دائماً كان يراهن، معيراً اهتمامه للمتلقين، والحالمين معه بين تضاعيف نصوصه الشعرية، حيث تتباهى بانتصاراتها على “الدخلاء والغرباء عن وطن الشعر والقصيدة “الأتم” أشعاره شفيفة يعتريها حيناً بعض الغموض لكنه مأنوس يتحاضن مع دلالاتها قبل مغادرتها النصوص، وديوانه “مزيج” يتربع مرتاحاً على بياض حبره الشاعر بسخونة اللهجة الواثقة من أنها تصل دون عربات إلى الآخرين التواقين إلى التلاقي والعناق اللهوف مع من ضيع في الأوهام عمره؟
” مزيج” هو المولود الثالث للشاعر بعد ديوانيه “احرثي الأرض أنا قادم، وعارياً دونك” وهذا الذي بين أيدينا تقدمة للقارئ الجاد، وله قيد الطبع ديوان “وينمو القاتل” و”أورام” شاعرنا يعاين بذكاء وبسرعة البديهة لديه، استقطاب المتلقي، مراهناً عليه هاهو يقول: “كل المسائل/ تقبل حلاً على الأقل/ إلا قلبي حلاً وحيداً/ أن يبقى نابضاً لأجلها” ص 11
ويحتل عنوان الديوان “مزيج” مساحة شاسعة من صفحات المجموعة الشعرية، وأكاد أقول إن الشاعر تماهى فيه وصار بعنوان لافتٍ “بشار عيسى.. مزيج”؟ كما نلحظه على الغلاف، يقول: “أسير في الفراغ/ أعوذ بك/ فيتكاثر عنادك/ ولا ترسلين برقاً/ أنّ اللّوز نائم في نيسان” ص 23
تتراوح مقطعاته الشعرية في هذه المجموعة مابين التمرد والمقاومة، حيث لا انتصار بلا مقاومة، بعيداً عن تجارب شعرية أخرى، حيث التجربة تكاد تكون مُفتعلة وخائرة في أتون تقنية تتنافر وتتفادى الوقوع في مطبات الخنوع لنظام العشيرة والوأد الجاهلي للهاجس الإنساني والحياتي، يقول: “لصدرها/ رائحة/ تشتق حنانها/ من ياسمين دمشق” ص34
كان يحب ولده الوحيد وزوجته حيث العلاقة الأكثر من “حميمية” وهاهو يقول:
“لم يبق لي حبيبٌ/ إلاّ ” الليث/ واللغة التي تكتب فرارها/ من قماش الجسد” ص 83
تجربته الشعرية تكاد تتحلل من الربط مابين النصوص، والعلائق الساخنة البعيدة عن الفتور والذبول مع ما يهجس بين أعصاب، وتلافيف القصائد، ويمكننا أن نقرأ الومضات والقصائد أحياناً مغفلة من عناوينها وما تعنيه، وترمز بها الحالات الإشارية الجائرة، يقول: “ياحقيبةً/ تشبثي بذراعها/ كي لا ينامَ في جوفها/ غيري وَغيركِ” ص86
مدمنٌ حتى النقاء والوفاء في محبة زوجته وولده “اللّيث” ودمشق لم تغب أبداً عن ممازحته لأوراد حدائقها، وياسمين أحيائها، وخاصة القديمة منها، يعشقها كما يعشق “سلمية/ البلعاس” يقول في قصيدة: “هي دمشق أُنثاي”: “يا صهيل دمشق/ حين أُفرغُ شوقي/ إلى قناطر “باب توما” ص 103
إنها القصيدة / الفعل التي هي وبذاتها تلتقي مع ألفاظها، وتتناغم مرتاحة بين ضجيج مفرداتها، إنها البنية الدلالية، التي لا تبتعد عن معانيها الواضحة، إنها لغة الشجار والمناكفة التي تعتري ما يحوشه الديوان بين ذراعيه، والطبيعة التي تشغل بألوانها المتصادمة حيناً بين غناج فصولها الأربعة، التي هي ميزة طبيعة بلاد الشام “سورية / الهلال الخصيب”.
شاعرنا بشار عيسى يقول ما يريده ويتمناه في ومضاته البرقية الرعدية، والشاتية إذا جُن إله المطر وأيقظ جفاف أراضينا “البعل” وتبدأ سيمفونية المناغاة والحياة ما بينهما ويعم الخير الوفير! فهو يؤسس على نظرية “التجاوز والتخطي” بالرغم من أن هناك بعض القصائد تتناصّ مع تجارب شعراء مجلة “شعر” اللبنانية.
بعد أن نشر المرض “الخبيث” معسكراته في أحشائه، ولم يستطع الكيماوي السيطرة على الموقف، وقتها تداعت المتاريس، ونما “القاتل” وعششت “الأورام” وتآكلته، فكانت الهدنة المفتعلة مع المرض واهية؟! لم تدم طويلاً، فغادرنا إلى “الأبدية” في 23- 2- 2014
وفي بطاقة وداع أقول: “بشار عيسى/ مازلتَ حياً تنبضُ فينا/ أنت في كل قصيدة/ وفي البلعاس “أنين الشجر”/ لن تموت لأنك ” النّقيُّ “بيننا”
“مزيج” بشار عيسى
دار بعل دمشق– سورية
صادر عام 2009
خضر عكاري
khudaralakari@hotmail.com