مولود فرعون: الأديب الجزائري الذي قارع الفرنسيين بلغتهم
“أكتب بالفرنسية، وأتكلم بالفرنسية، لأقول للفرنسيين إني لست فرنسياً”.بهذا القول الخالد، عُرف الشهيد الجزائري مولود فرعون الذي يعد أحد كبار كتاب المغرب العربي، وواحداً من أهم رجالات الجزائر الذين قاوموا الاستعمار الفرنسي بفكرهم وثقافتهم. كان يستخدم اللغة الفرنسية ليدافع عن الشعب الجزائري ومظلوميته وحقه المشروع في انتزاع حريته من مغتصبيها ونيل استقلاله، وكان يندّد بالمجرمين الفرنسيين الذين أوهموا الإنسانية أنهم منتجو الفكر القانوني ومبدأ الاخوة والمساواة، وقد فضح ظلام الاستعمار، وسياسة التمييز العنصري التي اتبعها المستعمر الفرنسي بحق الشعب الجزائري وتجويعه وإذلاله ومصادرة أراضيه.
ولد الأديب مولود فرعون في قرية تيزي هيبل – ولاية تيزي روزو- في الثامن عشر من آذار سنة 1913، يتحدر من عائلة فقيرة، لكن هذا الفقر لم يقف حائلاً أمام إصراره على التعلم، فقد واصل تعليمه في المدرسة الابتدائية في قرية تاوريت موسى، وكان لفرط حبه للعلم والتعلم يقطع مسافة طويلة يومياً بين منزله ومدرسته سعياً على قدميه في ظروف قاسية، فكان مثالاً للطفل المكافح الذي يتحدى الصعاب المختلفة، ومصارعاً قوياً لواقعه المؤلم الذي امتزج فيه الفقر والحرمان، وبهذا الصراع استطاع التغلب على كل المثبطات والحواجز مما أهّله للظفر بمنحة دراسية للثانوي (بتيزي وزو) أولاً وفي مدرسة المعلمين “ببوزريعة” بالجزائر العاصمة بعد ذلك. ورغم وضعه البائس تمكن من التخرج من مدرسة المعلمين. وبعدها قررّ العودة إلى قريته لينشر ما تعلمه من علم وفق أسس الوطنية الجزائرية، ومعروف أن المناهج الفرنسية التي تدرّس للجزائريين كانت تحرص على تلقين الجزائريين مبدأ الجزائر فرنسية.
عمل مولود فرعون بالتعليم، وبدأ عالمه الفكري يتسع، وأخذت القضايا الوطنية تشغل اهتمامه، وفي عام 1960 عُيّنً مفتشاً لمراكز اجتماعية وهي الوظيفة الأخيرة التي اشتغل فيها قبل أن يسقط شهيداً برصاص الغدر والحقد الاستعماري في 15 آذار 1962 وظلت كلماته وأقواله خالدة، وستظل خالدة لأنه صاغها بدمه وكتبها بشرايين قلبه، وقد أقسم بالله أن تحيا الجزائر. وللكاتب فرعون آثار أدبية كثيرة ومتنوعة منها كتاب (أيام قبائلية) ويتكلم فيه عن عادات وتقاليد المنطقة. ورواية (ابن الفقير) التي نشرها عام 1950 وفي عام 1953ظهرت له رواية (الأرض والدم) وفي عام 1957 (الدروب الصاعدة) وصدرت يومياته سنة 1969 في كتاب مستقل يحمل عنوان (مولود فرعون: رسائل إلى الأصدقاء) وأخيراً نُشرت روايته (الذكرى)2 وكلها تتكلم عن المعاناة الجزائرية من ظلام الاستعمار، والمحاولات العديدة لطمس هوية الشعب الجزائري، بالإضافة إلى مجموعة من الرسائل والمقالات ذات طابع شخصي.
لقد كانت روايته “ابن الفقير” تشكّل نوعاً من السيرة الذاتية، تلك السيرة التي تحدّث فيها عن شعبه أكثر مما تحدث عن نفسه، فقد كانت روايته الأولى ولا تزال، أول عمل أدبي يبدأ به كل تلميذ جزائري اطلاعه على الأدب الوطني، وقد حاز إبداعه شيئاً فشيئاً على شهرة واسعة، ليس في وطنه فحسب بل في فرنسا كذلك. ترك موت الكاتب أثراً فاجعاً في قلوب كل الناس من ذوي الإرادة الطيبة، حيث ساهم فرعون كثيراً في دعم القضية الوطنية، وإيقاظ وعي الشعب الجزائري الذي هبّ لمعركته الخيّرة والحاسمة ضد الاستعمار. ورواية “ابن الفقير” هي من الأعمال الهامة التي ما يزال اهتمام النقاد بها متواصلاً، فهو يشرح فيها كيف يتكون الطبع الحقيقي للرجل القبائلي، حيث يولد الطفل في هذه المنطقة من أجل المعركة في سبيل الحياة، وتشكل فلسفة وحكمة الحياة وعاداتها ومعتقداتها وشعائرها القديمة. ذلك العالم الخاص والأصيل الذي تمثله قرية تيزي، حيث شبّ ابن الفقير، وهي في الوقت ذاته ذلك العالم النموذجي لقرية قبائلية نموذجية، حيث العادات والتقاليد التي نشأ عليها الكاتب والتي كانت أيضاً مصدراً لثقافته، يضاف إليها الحركات الثورية التي أطلقتها الشعوب الأمازيغية ضد المستعمر الفرنسي، كان لهما أشد الأثر على شحن لغته بما جعلها تتفوق على ما سواها من مؤثرات، وهذا ما جعله باحثاً عن أفق فكري لا حدود فيه يدعم قضيته الوطنية.
لقد قارع الأديب الجزائري مولود فرعون الاستعمار الفرنسي بلغته الفرنسية معلناً للعالم بأنه يكتب بها ليقول لمحتل بلده: أنا أناضل ضدكم بلغتكم، ولأبعدكم عن “الدروب الوعرة” التي تعشق قبائلنا أن تعيش أجمل الأيام القبائلية فيها.
واصل مولود فرعون دوره التعليمي مع أبناء وطنه يلقنهم تاريخ الجزائر الحقيقي الذي صادره الفرنسيون، وفي ذات الوقت كان فكره التحرري يزداد اتساعاً، اتساع مساحة الجزائر، وفي الخامس عشر من آذار 1962 اقتحمت عصابة الجيش السري الفرنسي مكان عمله وأردوه شهيداً برصاص الحقد والغدر، لكن كلماته ظلت خالدة تفضح ظلام الاستعمار الفرنسي، ومنارة للجزائريين الذين انتزعوا استقلالهم بدماء شهدائهم الذين قدّموهم على مذبح حريتهم.
إبراهيم أحمد