فراشة سورية في الرقص يارا عيد: أحترم كل فرقة لم تحول الرقص إلى سلعة تجارية..
لُقِّبت بـ “فراشة سورية” وهذا لم يأتِ بين ليلة وضحاها، بل نتيجة لاجتهاد ودراسة وشغف حقيقي بفن الرقص، ولهذا وعلى منوال “أنت تتنفس إذاً أنت موجود” تردد دائماً: “يارا ترقص إذاً يارا موجودة” لتؤكد يارا عيد في حوارها مع “البعث” أنها تعتز بهذا اللقب كثيراً وهو يمنحها القوة والقدرة على الطيران أكثر فأكثر ويعطيها الدافع على المضي قدماً ويحمّلها مسؤولية كبيرة أمام أشخاص أعطوها ثقتهم، مبينة أنه لولا وجودها في عائلة تحترم الجسد الإنساني قبل كل شيء وتقدس عالم الفنون لما استطاعت المضي في هذا العالم والفوز بهذا اللقب، وقد كانوا الداعم الأساسي لها ولمستقبلها وقد علموها ومنذ نعومة أظافرها بأن الفن فلسفة ولغة قد تكون أبلغ من اللغة المنطوقة وأن القواعد والالتزام لهما حصة كبيرة في تطوره لأن الفن الحقيقي لا يصل برأيها إلى مرحلة الجنون والارتجالية (الإبداع) إلا بعد عمل طويل واجتهاد وانضباط في العمل ليستطيع الراقص الخروج في نهاية المطاف إلى عالم التحليق الحر.
وتوضح عيد أن الرقص ليس حكراً على أحد، وهو وإن بدأ مع أول نبضة لقلب الإنسان على الأرض بمفاهيم وطرق وأشكال مختلفة حسب تطور كل مجتمع إلا أن الرقص في النهاية واحد، مبينة أن هناك من يعيد نشأة الرقص إلى أصول دينية حيث ارتبط بالآلهة واعتُبِر طقساً من طقوس العبادة والتقرّب من الآلهة كالحضارة اليونانية، وعلى خلافها اعتبرته الحضارة الرومانية طقساً وثنياً عاقبت من اتبعه، وهكذا كان للغة الرقص ترجمة معينة عند كل حضارة، حتى أنه ارتبط عند بعض الشعوب بأسماء الحِرَف، فكانت هناك رقصة الصيادين والحذّائين والمحاربين.. الخ.
وهكذا تطور الرقص عبر العصور حتى وصل إلى يومنا هذا مع كل هذا الزخم الفني، منوهة عيد إلى أن الرقص ولِد في إيطاليا وترعرع في فرنسا وكوَّن العائلة العريقة في روسيا، وتعتبر عيد سورية من البلدان التي وصل إليها الأوكسجين في مغارة الرقص، مشيرة إلى أنه وفي العشرين سنة الفائتة وحتى بداية الأحداث كانت سورية من البلدان العربية الرائدة في هذا المجال، ويعود الفضل برأيها إلى منهج المدرِّسة الروسية الكلاسيكية فاغانوفا التي اعتمدته في تأسيس الراقصين في سورية، فالراقص -كما تشير عيد- يستند في البدء على الباليه كقاعدة وركيزة للانطلاق نحو عالم الاحترافية باعتبار أن الباليه هو ألف باء الرقص الذي من دونه لا يمكن تكوين أية مفردة للانطلاق إلى كتابة قصيدة محكية بلغة الجسد.. ولكل ما سبق استدركت مدرسة الباليه في سورية هذه الأهمية فجلبت أهم الخبراء الروس لينقلوا لنا هذا الفن الراقي، وهنا تخص عيد بالشكر السيدة إيمان البيطار التي كانت مديرة لمدرسة الباليه في بداياتها والتي أصبحت ابنتها الصغيرة الآن طالبة من طالبات عيد في مدرسة الباليه، وكذلك والدتها (والدة عيد) الدكتورة هبة البيروتي التي أكملت إدارة المدرسة وعملت على إنشاء قسم الرقص في المعهد العالي للفنون المسرحية ليتابع بعدها الأستاذ معتز ملاطية لي في إدارة هذا المعهد والذي كان أستاذ عيد فيه، لتنتقل بعد مرحلة الطالب إلى مرحلة المعيدة ثم الأستاذة فالمصممة وليحفر كل ذلك في روحها معاني لا يمكن البوح بها إلا رقصاً، مشيرة إلى المسيرة التي بدأتها بمرحلة الطالب التي لا تتعدى فيها المسؤولية حجم تطوير النفس فنياً إلى مرحلة الراقص الأول والدخول في عالم جديد ومختلف تماماً، فمرحلة عالم التدريس الذي يتطلب البحث المكثف في مناهج ومدارس الرقص لإكمال ما بدأ به مع الخبراء لتطويره، وبالأخص الباليه الكلاسيكي الذي اعتمدت في تعليمه في صفوفها على الدمج بين المدرسة الروسية والفرنسية ولاحظت أثره الإيجابي على طلابها في المدرسة، مبينة أن الرقص يحتاج إلى مرونة وقوة وانسيابية في الأداء، وهذا ما اعتمدته في طريقة تدريسها.
ولا تنكر عيد أن كونها مدرِّسة في قسم الرقص ومدرسة الباليه فهذا يتطلب منها مجهوداً مضاعفاً لأن التواصل مع الراقصين الشباب في قسم الرقص مغاير تماماً للتواصل مع أطفال مدرسة الباليه، حيث الخيط الرفيع الذي يفصلها كأستاذة عن الطلاب الذين هم أصدقاؤها خارج الصف والذي لا يجوز تخطيه في قاعة التمرين، مع تأكيدها على الحفاظ على وجود مساحة خاصة لكل طالب على صعيد الإحساس وليس التكتيك، يعبِّر فيها عن نفسه كراقص، في حين يجب أن تكون مع طلاب مدرسة الباليه الصغار، وخاصة الفئة العمرية الأولى ذات السبع السنوات على دراية كاملة بأصول التربية الفنية والحياتية لأن التعامل معهم حساس جداً، ولصعوبة هذا الفن بالنسبة لأجسادهم الصغيرة، مشيرة إلى أن اطّلاعها المتواضع على علم نفس الطفل كان له أهمية كبيرة في تواصلها معهم، آخذة بعين الاعتبار أثناء الحصة الدرسية خصوصية كل طفل على حد سواء دون أن تميز بينهم أو أن تضعهم جميعاً في سلة واحدة، لذلك يجب التعامل معهم بحذر، مع تأكيدها على أنهم كلما كبروا أصبح التعامل معهم أسهل، ولا تخفي عيد أنها اكتسبت خبرة رائعة من تعاملها مع الأطفال ظهرت نتائجها في صيغة العرض الذي قدمته في مدرسة الباليه في صيف العام 2011 تحت عنوان “الفتاة الضائعة” على خشبة مسرح دار الأوبرا والذي تطلَّب مجهوداً كبيراً بعد أن وصل عدد الأطفال الراقصين خلف الكواليس وعلى الخشبة إلى الثمانين ابتداء من عمر الـ 7 وحتى الـ 17 وهم عارفون بجميع أدوارهم ومتى ومن أين يدخلون ويخرجون وكيف يغيرون ملابس كل رقصة لوحدهم ويفهمون الحالة التعبيرية لكل لوحة، لتعتبر تقديم هكذا عرض بكادر فني وطني إنجازاً وطنياً كبيراً.
وبالنسبة لتقييمها للفرق الراقصة السورية تبيّن أنها تحترم كل فرقة لم تتعدَّ على مفهوم الرقص وفلسفته ولم تحوله لسلعة تجارية، أما في ما يخص تجربتها مع هذه الفرق فكانت لها تجربة طويلة مع فرقة إنانا كراقصة متدربة فراقصة أولى، وهذا أكسبها خبرة مسرحية كبيرة وخبرة وفهماً لتفاصيل وحياة الراقص على المسرح الذي يعتبره البيت الثاني له، موضحة أن فرقة إنانا عملت على تصدير الفن الشعبي الأصيل بلغة فنية معاصرة ولا يجوز التنكر له أو التقليل من أهميته، فهو موروث حضارة بأكملها، وبالتالي لا يجوز تجاهله، ويجب العمل على تطويره، مع الحفاظ على ماهيته حتى لا يتعرض للاندثار. وتشير عيد كذلك إلى أنها ساهمت أيضاً في تأسيس فرقة سمة للرقص المعاصر مع المصمم علاء كريميد وصديقتها حور ملص، فعملت فيها كمدربة وراقصة إلى أن سافرت الفرقة واستقرت في بيروت، مؤكدة أن تجربتها معهم كانت مختلفة عن تجربتها مع إنانا وهي البعيدة كل البعد عن الفن الشعبي وتعتمد على الرقص المودرن والمعاصر والهيب هوب والجاز، وقد كان لعيد حصة من رقص التانغو الأرجنتيني مع راقص التانغو المفضل لديها ورفيق دربها الذي دعمها جداً ومازال عمرو قرقوط، مبينة أن هذه الرقصة نقلتها من عالم القوالب الكلاسيكية المتعبة وصرامة الرقص بشكل عام إلى عالم يجمع بين الرجولة (الماتشو) والأنوثة والكبرياء: “كل لحن تعزفه الآلات الأرجنتينية يترجمه الجسد وهو يروي قصة معينة”.
ولأن فن الرقص لا يتوقف عن التطور ويجب مواكبته كانت عيد أثناء حوارنا معها تستعد للسفر إلى ألمانيا لجلب المزيد من الخبرة والعودة ثانية للوطن لتفيد منه، مؤكدة أن حزنها شديد لسفرها لتعلقها الشديد بطلابها وبلدها الجريح ولغيابها للمرة الأولى منذ دخولها عالم الرقص والاحتراف عن خشبة المسرح، ولأن يارا عيد اليوم أصبحت في ألمانيا، نتمنى لها النجاح والتوفيق، ونحن بانتظار عودتها.
أمينة عباس