الأغنيـــة والمجتمــع.. مــن يقـــول الآخـــــر؟
النتاج الفني بكافة صنوفه أحد أبرز روافد الوعي الجمعي، كما لا يخفى على أحد حجم التأثر بالمميز من اللوحات الفنية أو الأغنيات والقصائد.
وبالغوص قليلاً في مجاهل النفس البشرية نرى أن الإنسان يتخذ من النتاج الفني -أياً كان مصدره- مثالاً يحتذى، وقد يعمل على تقديم مسوغات وحجج لنفسه حين يقدم على فعل لا يمتلك شروط الصحة الكاملة أو لا يلقى القبول الاجتماعي المطلوب، حينذاك يبرر لنفسه ما يقوم به بأنه قرأ ذات مرة أن أحدهم في رواية ما قام بذات الفعل فتحدى الأعراف والقوانين وعارض أهله ثم نال مبتغاه في النهاية – هذا إن كان الشخص قارئاً ومطلعاً على تجارب أدبية عدة- وإن لم يكن قارئاً فقد يلجأ إلى أي شيء متاح للجميع – كالأغاني مثلاً- فيعود باحثاً في لاوعيه عن جملة قيلت في أغنية معينة ليقدم لنفسه، ما يثبت أن غيره أقدم على ذات الفعل أو فكر بذات الطريقة، وفي هذا اللجوء اللاواعي تكمن مشكلة كبيرة، فالأغاني موجودة بين أيدي الجميع يسمعها الكبير والصغير، المثقف وغير المثقف فتعتبر بذلك أكثر الأدوات تأثيراً في العامة على المدى الطويل أو المباشر.
وإن جلنا بنظرنا في “السوق” نرى حجم القنابل الفكرية الموقوتة التي تذاع على الفضائيات والاسطوانات التي تفترش الأرصفة وتحوي من “الأغاني” ما يثير الدهشة والاشمئزاز في آن معاً.
ولا يقتصر حديثنا على الأغاني المفتقرة لأدنى شروط الفن من حيث الكلمة واللحن، بل يتعداه ليصل إلى نوع من الإسفاف الفكري والابتذال الإنساني المختلف الأشكال، فقسم من هذه الأغاني يحوي كلمات بذيئة فعلاً تخدش الحياء العام ولا تصلح أخلاقياً للتداول بين الناس بشكل خاص، فكيف الحال وهي تبث على مسامعنا عنوة في وسائل النقل العامة وعلى الأرصفة وفي كثير من المنازل التي تغيب عنها رقابة الأهل.
هذا فيما يخص منظومة الآداب والأخلاق العامة وهي – على كارثيتها– تبدو بسيطة إذا ما قورنت بالتوجه العامل على بث الطائفية وخلقِ هوة بين مكونات الشعوب، وهنا لا أتحدث عن سورية فحسب؛ إنما عن المنطقة بأسرها إذ تعج الفضائيات – كما الأرصفة- بأغانٍ وتسجيلات تمجد طرفاً وتذم آخر بطريقة مستفزة تساهم بشكل فعال في هدم أي حجر بني في المنطقة ضمن صرح المدنية الصرفة البعيدة عن العقائد والطوائف، وهذا كله يحدث علانيةً فلا حسيب ولا رقيب..!
ولعل السيناريو العراقي خير مثال على ذلك، فما إن سقطت الدولة عام /2003/ ودخلها الاحتلال الأميركي حتى بدأت المحطات التلفزيونية بالانتشار السرطاني المقيت، فغدت كل محطة ناطقة باسم طائفة أو تجمع عرقي معين وبدأت تضخ السموم وتكرِّس الخلافات فتشتم وتلعن وتلغي كل من يخالف توجهها إلى أن ذاق العراق الشقيق طعم التقسيم، وكل السبل لإكمال ذلك ما زالت ماضية في نهجها حتى يومنا هذا.
فهل الفن بشكله العام والأغنية تحديداً ناتج من إفرازات المجتمع الفكرية والأخلاقية؟ أم أن هذا المجتمع شريك في صنع فنه، يفرض موروثه التراكمي من الأخلاق والقيم على النتاج الفني بشتى صنوفه؟
يرى الطبيب النفسي والكاتب “رفيف المهنا” أن المجتمع هو المحرك الأساسي؛ يقول «إن الأغنية هي ملخصٌ فكري ونفسي وجمالي وثقافي عن شعب بأكمله، وهي بالتأكيد أكثر الحوامل الفكرية لتاريخ الشعوب أمانةً ولو لم تكن أكثرها شمولية، ففي الأغنية نستطيع أن نقيس مقدار الوعي العام لأي شعب، إذ إن الوعي السطحي الخائف يقدم أغنية سطحية وخائفة، بينما يستطيع الوعي العميق المتنور أن يفرز أغاني عميقة تعبر بدقة عالية عن حاجات وانشغالات الشعوب، فالأغنية هي ابنة مجتمعها، ابنة الناس الذين لا تستطيع تجاوزهم، فهي مرآة للمجتمع وليست محفزاً له، هي نتيجة وليست سبباً، لهذا فأنا لا أعتقد أن الأغنية في مجتمع كالمجتمع العربي عموماً ستكون قادرة على تغيير الأفكار لأنها تأتي من الداخل لا من الخارج، من نفس المادة الفكرية والأخلاقية التي تتدخل في بناء الوعي العام، فالأغاني التي قدمها الرحابنة مثلاً عجزت عن منع العنف في مجتمعات تستمع لفيروز طوال الوقت. إلا أني أتفق مع ما ذكر أعلاه في نقطة جزئية، إذ يعود الناس إلى الذاكرة الموسيقية لأنها الذاكرة الأسهل كونها تحتوي على كلمة مرتبطة بعامل الموسيقا التي تُسهّل وتساعد على غرزها في الذاكرة البعيدة والقريبة، ولأن الموسيقا تضع أي معلومة -وبمجرد ارتباطها بها- حدثاً مثيراً للبهجة، بالتالي فإن الذاكرة تضعه في مقدمة المعلومات التي تظل في متناول الفرد».
ويكمل “مهنا”: «الموسيقا تسهل من الحصول على المعلومات في الذاكرة وتجعل من هذه المعلومات مخزوناً مشتركاً عند جيل الأغنية، فهي أسهل القواسم المشتركة بين الناس وهي تطبع ذكرياتهم بطابع واحد، وأرى أن الأجيال تُنتج أغانيها لتصير مخزناً لذاكرتها الشعبية والفكرية والجمالية، لكنها تبقى عاجزة عن خلق تغيير حقيقي في ثقافة الشعوب فهي مخزن لما ينتجه فكر المجتمع وليست مصنعاً لأفكاره».
أما رئيس نقابة الفنانين في حلب “عبد الحليم حريري” فكان له رأي آخر تقاطع فيه مع “مهنا” بعض الشيء فقال: « بإمكان الموسيقي المبدع الارتقاء بالذائقة العامة والوصول إلى عقل المتلقي للتأثير فيه إذا كان الارتقاء متدرجاً وواضحاً. وأنا أتفق جزئياً مع الدكتور “مهنا” وأؤمن بأن الموسيقا هي مرآة حضارة الشعوب، إلا أن علاقتها بالمجتمع تبادلية بحتة، فهو يملي عليها مخزونه الثقافي وهواجسه وتطلعاته، وفي الوقت ذاته يكون الجيد منها قادراً على إحداث تغيرٍ في بنية المجتمع الثقافية من خلال طرح مواضيع جديدة ومعالجتها بطريقة ملائمة لهذا المجتمع في سعيه الطبيعي نحو التطور؛ وبذلك يكون المجتمع المستهدف هو نقطة الفصل في هذا الموضوع، فهل فساده أقوى من نزعته إلى الجمال أم العكس؟
لا بد أن ميزان القوى هنا متبادل، فحين يرتفع منسوب الوعي العام تأتي الفنون لتلعب دورها في رفد المجتمع بما يطلبه من الرقي. وقد قُرِع ناقوس الخطر مع بدء انحطاط الجملة الموسيقية للأغنية العربية واعتمادها على المؤثرات الصوتية بدلاً عن جمالية حركة المقامات العربية المتعددة، فغدونا نعود للخلف بدل التقدم للأمام، إذ قام منتجو الأغاني -وأغلبهم خليجيون قليلو الثقافة- بنشر أشكال جديدة للأغنية العربية ضعيفة التركيب الفني حيث تم الاستغناء عن معظم المقامات والإيقاعات العربية وعن عنصر التطريب الأساسي في الجملة العربية بالإبهار التقني والصورة المسفّهة».
بدورها أعربت “مريم الصالح”؛ وهي طالبة جامعية عن سخطها الشديد مما يفرض على مسمعها من أغان لا تمت للفن بِصِلة؛ تقول: «إن قبول الفن يتوقف على المستوى الثقافي العام للمجتمع، وأنا أجزم أن مجتمعنا السوري تحديداً يعتبر من المجتمعات الراقية فكرياً، إلا أن إنتاج هذه الأغاني لا يعني أنها لاقت قبولاً لدى الناس، هي ستنتشر حتماً بسبب الفروقات الجمعية في الحالة الثقافية العامة ولن يعترف بها أحد كأغنية تحمل هوية شعب كما هي الحال في الأغاني الخالدة، وأكثر من ذلك؛ أعتبر وجودها شبه طبيعي وضروري لتمييز الغث من الثمين، فالأغنية غنية عن التقييم الأكاديمي، ومستوى قبولها النسبي في المجتمع هو من يحدد جودتها ومستواها».
وبين أغنية قادرة على تأليب الرأي العام وتوجيهه نحو قيم الحياة، كما فعلت الأغاني الثورية سابقاً، وأغنية تكشف العورات الثقافية للمجتمع العربي، تبقى الحالة الفنية رهينة لتجاذبات القوى، تارةً ينتج الوعي العام فناً يقول الجمال بأبهى صوره؛ فيكون انعكاساً لحضارة وثقافة تكتسب فلا تفنى، وتارة أخرى تكون الأغنية فعلاً مرآةً لتطلعات الشعوب وحاجاتها، وهذا ما يتغير مع تغير المفاهيم وتقدم الحالة الفكرية، فما كان يعتبر “طقطوقةً” في الثمانينيات أضحى اليوم مثالاً عن الفن الجميل..!!
إياد شاكر