استلهام التراث في القصيدة المعاصرة “تشــــكيل الماضــــي بـــــروح العصــــــر”
لا يعيش المبدع في الحاضر فقط بل يعود أيضاً إلى الماضي ليشكّله وفق رؤية جديدة تتجاوز الماضي والحاضر إلى المستقبل. ولعل الوجه الأبرز لاستحضار التراث يتجلى بوضوح لدى الأدباء ومنهم الشعراء الذين لطالما عادوا إلى مخزون الأمة التراثي ليشكلوا منه إبداعاً يطلقونه في عصرهم. وهذه المسألة لأهميتها كانت موضوعاً للندوة التي أقامها اتحاد الكتاب العرب بدمشق بعنوان “استحضار التراث في القصيدة المعاصرة” والتي مهد لها د. حسين جمعة الذي رأى أنه في حضرة استدعاء التراث يصبح للشعر معنى خاص، لذلك نشعر ونحن نتحدث عن ش التراث في القصيدة المعاصرة أننا أبناء الزمن المستمر لا انقطاع في التاريخ ولا في الثقافة.
وكانت بداية المداخلات مع د. ثائر زين الدين الذي رأى أن توظيف التراث في الشعر العربي يعني استخدام مكوناته وعناصره فنياً وجمالياً بصورة تجعله قادراً على النهوض بالأبعاد المعاصرة لرؤيا الشاعر الحديث، مؤكداً أن عدداً كبيراً من الشعراء قد كتبوا في هذا المجال. وركز زين الدين في مداخلته على البواعث التي اعتبرها كامنة خلف استحضار التراث وبدأها بالبواعث القومية والوطنية والتي ظهرت بقوة عندما هُددت الأمة ووجودها. ورأى زين الدين أن الباعث الأهم وراء استحضار التراث هو الباعث الثقافي، أما أهم أشكال استدعاء التراث في القصيدة المعاصرة فيتجلى في توظيف الشخصية التراثية، وهذا قد يكون عابراً وسريعاً وقد يكون مقصوداً لذاته، وهناك أيضاً توظيف النص التراثي في النص الجديد، وأخيراً توظيف المدينة والمكان التراثيين.
العودة للتراث العربي والعالمي
أما د. راتب سكر فقد تناول في بحثه اتجاهين من اتجاهات النظر للتراث الأول الشعراء الذين يميلون إلى الاتباعية وقيم القصيدة الكلاسيكية وهؤلاء يميلون إلى بعث التراث وإعادة عرض مكوناته، وقدم سكر هنا مثالاً هو ديوان ابن الأيهم الإزار الجريح للشاعر سليمان العيسى وقارن بين تناول العيسى لهذه القصة وبين تناول عبد الوهاب شيخ خليل لها. أما الاتجاه الآخر فهو الذي يغلب لدى أصحاب نزعة الحداثة العربية في الشعر وهؤلاء يميلون إلى بعث التراث في تشكيل جديد وتوظيفه لإعادة تشكيل العالم والوجود، وهنا توقف سكر عند تجربتين الأولى للشاعر ثائر زين الدين معتبراً أنه عندما يستحضر التراث الديني أو التاريخي فإنما ليؤسس لوحة جديدة تفيد في إعادة رؤية الماضي بتشكيل جديد أما بالنسبة لتجربة الشاعر نزار بريك هنيدي فأكد سكر على حضور عنصر الخلق بقوة في هذه التجربة كون هنيدي يسعى لإعادة تشكيل العالم وكأن الوظيفة الكبرى لدى الشاعر تتماهى بأن العالم لابد من هدمه وإعادة بنائه. أما اللافت في تجربة الشاعرين كما يؤكد سكر فهو أنهما لا يعودان فقط إلى التراث العربي بل إلى التراث العالمي أيضاً بروح واحدة تتجلى في كتاباتهما.
النص التراثي وثقافة العصر
كما قدم محي الدين المحمد مختصراً لدراسة قدم فيها رؤية وقف من خلالها على علاقة النص التراثي مع ثقافة العصر، مؤكداً أن تعلق الأدباء بالمكان دلالة على احترام قضية الخلق الأول بما يتلاءم والشرط الإنساني بثباته الحضاري في النصوص التي حفظتها البشرية عبر تاريخها الطويل، ولقيت قبولاً يحمي أخلاق المجتمعات التي ينتمون إليها عبر امتدادات روحية صادقة، كما تمثل ورقة العمل التي قرأها المحمد موجزاً لدراسة تتناول دراسات نقدية قدمها عدة نقاد منهم عبد السلام المسدي وعبد العزيز المقالح وصلاح فضل في الحالة الشعرية لمحمود درويش وقف من خلاله المحمد على العلاقة بين النصوص التراثية، ولكن بشكل نقدي وركز على مثال واحد من تلك الدراسة وهو نص للسياب.
الشاعر صوت الجوهر الإنساني
ورأى د. نزار بريك هنيدي أن مصطلح التراث نفسه مازال ملتبساً في أذهان الكثيرين ممن يستخدمونه لاسيما في مجال الأدب والنقد الأدبي، وهذا اللبس يكمن وراء الكثير من المغالطات التي تشهدها الساحة الأدبية المعاصرة. وأورد هنيدي في هذا المجال مسألتين تتعلق الأولى بنظرتنا لماهية التراث نفسه ذلك أن الفهم السائد الذي مازال يسيطر على أذهان الكثيرين أن هناك تراثاً واحداً محدداً يشكل المرجعية الفكرية والنفسية لكل أفراد الأمة، وأكد هنيدي أن هذه النظرة تصطدم بعدة ملاحظات في مقدمتها أن التراث العربي يستمد عناصره من إنجازات شعب موغل في القدم ويتميز بكثافة مكوناته وضخامة عناصره بحيث يصعب على أحد الزعم بأنه يمتلك معرفياً كل عناصر وتجليات هذا التراث، كما أن التراث العربي لا يشكل منظومة فكرية وإبداعية واحدة فهو غني ومتنوع يحتوي جميع الاحتمالات الممكنة للاختلاف والتناقض على صعيد الأفكار أو على صعيد البنى الفنية، كما أن التراث العربي يتضمن الكثير من العناصر المستمدة من حضارات أخرى كالفارسية والهندية واليونانية وهذه المكونات التحمت بالتراث العربي وأصبحت جزءاً منه. أما المسألة الأخرى التي تحدث عنها هنيدي فهي أن علاقتنا بالتراث ليست وحيدة الجانب بمعنى أن التراث لا يؤثر في إنتاجنا الثقافي فقط بل نحن أيضاً من خلال قراءتنا للتراث نعيد إنتاجه وفق رؤيتنا المعاصرة، مؤكداً ضرورة أن يكون الشاعر وريثاً للتراث الإنساني بمجمله باعتباره يمثل صوت الجوهر الإنساني برمته وإلا فإنه لن يستطيع أن يقدم ما هو جدير بالبقاء.
ربط الماضي بالحاضر
ختام المداخلات كانت مع د. نزار بني المرجة الذي رأى وعلى نقيض ما ذهب إليه الكثير من الباحثين والنقاد أن قضية استلهام التراث كانت مسألة دائمة الحضور عند معظم الشعراء القدامى والمحدثين حتى عند أولئك الذين حاولوا نفي هذه الظاهرة كأدونيس. وأكد بني المرجة أن قضية استدعاء التراث في القصيدة تستدعي إلى الذاكرة الكثير من الأمثلة معتبراً أن المتابع لنتاج الشعراء العرب المعاصرين يلاحظ دون عناء أن ظاهرة استلهام التراث موجودة على نطاق واسع في نتاجاتهم ويبدو ذلك واضحاً لدى رواد التجديد في الشعر الحديث كنازك الملائكة وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وسليمان العيسى، وصولاً إلى جيل الستينيات كأمل دنقل وفايز خضور وممدوح عدوان. واعتبر بني المرجة في ختام مداخلته أن استلهام التراث في القصيدة المعاصرة يمثل دليل عافية للربط بين الماضي والحاضر والتواصل الحضاري بين ما هو قائم وما هو موروث عند أمة ما مثلما يمكن النظر إليه على أنه يمثل جانباً هاماً لموضوع المثاقفة بين الشعوب والأمم.
جلال نديم صالح