الحاجة إلى تفكير سيسيولوجي جديد
من ذا الذي يعزز إرادة الاقتتال لدى العرب والمسلمين؟
لا شك في أن النهضويين العرب والمسلمين والمسيحيين، وكذلك حركات التحرر والاستقلال العربية، ومن بينها حزب البعث العربي الاشتراكي الذي يقف اليوم فكراً وتنظيماً مصدوماً ومظلوماً، لا شك في أن هؤلاء جميعاً أسهموا – بتكامل – في تحقيق نجاحات كبرى في منتصف القرن الماضي أدت إلى بناء جديد للشخصية العربية والإسلامية أسس للعيش المشترك، وللتحرر من المستعمر، ولبناء الإنسان والوطن والمواطن، ولتهميش الرجعية العربية – التي تنهض اليوم من جديد -. وقد بُنيت هذه النجاحات على تجاوز نبش الماضي الدفين والتركة التاريخية الثقيلة من حالات التوتر والاحتقان.
ولم يدُم هذا طويلاً إذ سرعان ماتغيّرت المؤسسات والعقول والمجتمعات والدول والأفراد بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية، وانتهاء حقبة التوازن القطبي الثنائية، والدخول في زمن العولمة والهيمنة وأحادية القطب. فبعد ذلك تقدّمت الامبريالية وبحثت عن عدو آخر غير الشيوعية، فكان الإسلام حاضراً ولاسيما بحامله العربي، وازدادت بؤر التوتر والنزاع في العالم، فكان هناك في مطلع التسعينيات أكثر من خمسين بؤرة نزاع وعنف دموي في العالم، للعرب والمسلمين حظ كبير فيها في العراق وفلسطين والجزائر وأفغانستان… وكانت الولايات المتحدة حاضرة في كل واحدة منها، تليها «إسرائيل» ومخابرات آل سعود، وبعد أن تطوّرت الأمور ظهر الحضور الفرنسي وآل ثاني في قطر.
واليوم بعد أن تلاشى مفهوم التقدّم الاجتماعي، بل انحرف عن مساره في المجتمعات والدول العربية والإسلامية، وبعد أن أصبح العالم بأغلبه ينشد مفهوم التقدّم في الفكر البرجوازي، بدأت الرجعية العربية تستبدّ بهذه المجتمعات التي حُرمت من المناعة والحصانة، وبرزت فيها النزاعات والاقتتال غريزةً قطيعيةً تتشظّى دون ضابط لها. هذه الغريزة تاريخياً ليست علمانية، بل تنطلق من أسس دينية، ولاسيما في الديانات الإبراهيمية الثلاث – يعني في منطقتنا – فهل هذا مصادفة، أم هناك يد خارجية؟.
والحقيقة كان للصهيونية والوهابية بتأسيسهما البريطاني، والرعاية والدعم الأمريكي فيما بعد، دور كبير في هذا الواقع، فهما تتشابهان أيضاً في النزعة التوسعية – جوالة وعابرة للحدود -، وفي التطرف، وفي الدموية، وتلتقيان اليوم في الأهداف المتحققة من إرادة الاقتتال ونتائجه، وفي تسعيره، وفي القضاء على مفهومات التحرر والتقدم العربي الإسلامي.
لقد استقرّت – إلى حدّ ما – المجتمعات والدول والشعوب العربية والإسلامية في حقبة التوازن الدولي، واتجهت نحو الوطن والمواطن والتحرر والتقدّم. وعلى الرغم من التعدد والتنوع، ووجود سلطات حكم غير رشيدة أحياناً فيها، فإن ذلك اقترن بحركات انقلابية هادئة غير دموية على نحو مانشهده الآن، وشهدت هذه الدول والمجتمعات مراحل انتقال متعددة لم يُكفّر فيها أحد، ولم تُستبح الدماء والأعراض، وتُدمَّر العقول والأرواح والأبدان والمصانع والمنشآت..، فهل مانشهده اليوم صادر عن غريزة، أم عن شخصية تاريخية إشكالية، أم عن عناصر مغذيّة خفيّة؟ نعود إلى الصهيونية والوهابية، ولا نركن إلى نظرية المؤامرة بمفردها، ولا نقفز أيضاً فوق قصور العامل الذاتي.
والحقيقة إن الدول التي تنعم اليوم بأنواع من الاستقرار في منطقتنا – وإلى أجل قد لا يطول – هي فقط الدول الوظيفيّة وفي طليعتها: السعودية وقطر وتركيا و«إسرائيل»، وفي هذه شيء من الإجابة عمّن يعزز إرادة الاقتتال العربي الإسلامي، ويذكي ناراً «وقودها الناس والحجارة».
في الأسابيع الماضية أوضح رئيس تحرير إحدى صحف آل سعود كيف تتحمل المدرسة، والمسجد، والحكومة، والدعاة، والفضائيات في بلاده، مسؤولية التحريض على التكفير والكراهية والتفجير. وهذه ازدواجية ومتاجرة ونفاق كبير في التعامل مع الإرهاب والتكفير يحاكي فيها آل سعود الأمريكان، والفرنسيين، والصهاينة، والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وقد أوجزها بالأمس رئيس جماعة علماء العراق الشيخ خالد الملاّ بإعلانه أن تنظيم داعش يمارس انتهاكات ضد الإنسانية… وهناك أطراف ووسائل إعلام مغرضة تزرع الفتن بين العرب والمسلمين، وانتقد بيان الاتحاد العالمي الذي يعتبر ماحدث في العراق «ثورة شعبية» ورئيسه الذي يقود فتنة تُسقط عنه الشرعية، وفي هذا اتفاق مع ما أعلنه الأزهر الشريف.
لذلك كلّه فإن الفكر القومي العربي، والإسلامي المستنير التاريخي المحمّدي أمام تحدّ تاريخي اليوم، ولاسيما مع هذا الاقتتال الذي يتجه ليتجاوز ربع قرن من الزمن، وقد يطول؟!.
وهنا لابد من حضور ودور واقعي ومستقبلي لحزب البعث، خاصة أن جماهيره ومنظماته القومية سجلت في الماضي حضوراً فاعلاً ونجاحاً في التعامل مع هذه الإشكالية التاريخية والراهنة، وكانت حاملاً قومياً للنظرية وللتنظيم، وللمشروع النهضوي العربي، فلابد من بحث سيسيولوجي جديد منقذ عربياً وإسلامياً، ومن قال إن الحزب منذ بداياته لم ينطلق منه؟.
د. عبد اللطيف عمران