اختتام عروض مهرجان سينما الشباب والأفلام القصيرة أفلام وثّقت المرحلة الراهنة وأخرى ضاعت في متاهات الأزمنة
فتح هذا المهرجان مداخل جديدة للسينما السورية إذ عبّرت الأفلام المشاركة عن رؤى وطروحات مختلفة، وقد تميّز كل فيلم بتقنية خاصة ولمسة فنية دافئة، بعضها وثّق قسوة ما نعيشه وأخرى عبّرت عن مشاعر وجدانية ضاعت في متاهات الأزمنة، وكان عدد منها أشبه بشذرات تعكس أصواتاً حرة لتداعيات متواترة تخضع لتأويلات متباينة، ورغم بساطة الحكاية إلا أنها تحمل في متنها مدلولات عميقة، وكان للموسيقا التصويرية حضور كبير جعلها تتفوق على جميع المؤثرات الفنية والصور المركبة وفي أحايين كثيرة كانت الحامل الأساسي للخطاب الدرامي.
وليس بغريب أن يعوّل مدير المؤسسة العامة للسينما محمد الأحمد على نجاح هذا المهرجان لإعادة البحث في مشروع إقامة معهد للسينما كي تتوازى الدراسة الأكاديمية مع الموهبة. ومن الأفلام التي عُرضت في الختام..
شاهد على دمار الإرهابيين
نجح قصي الأسدي مخرج فيلم “زهرة القبار” في ملامسة التخريب والتدمير الذي افتعله الإرهابيون في تهديم مناطق سكنية آمنة بشكل مباشر، فكان المكان هو البطل الحقيقي إذ تدور أحداثه بين زوجين في خريف العمر يحضران لزيارة منزلهما المهدم، فيسيران فوق الحجارة المتراكمة والأثاث المتكسر، وكونه فيلماً صامتاً اعتمد فيه المخرج على عنصر المفاجأة والذهول والضعف الداخلي إزاء مواجهة الواقع بدا هذا واضحاً في تأثر الفنانة رغداء هاشم حينما التقطت صورة مهشمة لعائلتها، والأداء الإنساني الرائع للنجم علي كريّم حينما تعثر ووقع من الكرسي فحاولت زوجته أن تنتشله لكنه يفشل مرات، إلا أن إصرارهما على الحياة يمنحه القوة فيستعيد توازنه وينتهي الفيلم بمشهد حميمي يضمهما وصوت فيروز يصدح وسط الدموع “وطني بتضلك طفل صغير” وقد استخدم المخرج تقنية الدمج بين الواقع واستحضار الماضي من خلال الفلاش باك للحياة الآمنة، وأومأ إلى إصرار الشعب السوري على الاستمرار وانبعاث الأمل من قلب الموت لاسيما حينما اقترب علي كريّم من أوراق النبتة الخضراء الصامدة رغم انكسار أجزاء منها، وتكمن أهمية الفيلم أيضاً بالمؤثرات الصوتية والموسيقية الممتزجة بأزيز الرصاص ودوي القنابل.
أما فيلم “ستي حسونة” فجاء بنمط مغاير كونه ينتمي إلى سينما الواقع ونقرأ بين خطوطه دراما نفسية لامرأة تتعرض لأزمة بعد وفاة زوجها لتخرج المخرجة سارة فتاحي من الدائرة الضيقة إلى المحيط العام، وقد اعتمدت على السرد المباشر من قبل سيدة دمشقية- حسنة الحايك- لتفاصيل حياتها بدءاً من مرحلة الطفولة إلى مراحل قصة حب شهدتها حارات دمشق وأزقتها تكللت بزواج حسنة من فايز، لتصل من خلالها إلى عشق دمشق وتتحدث عن التغييرات والتقلبات التي طرأت عليها خلال الأزمة، وتنتقل الكاميرا إلى أحياء متعددة في دمشق من خلال تفاصيل ذكريات حسنة، وتنجح المخرجة عبْر السرد بتمرير حكاية عشقنا لدمشق ولتاريخنا وجذورنا وأصالتنا، ويأتي رفض حسونة مغادرة دمشق تأكيداً على ذلك لينتهي الفيلم بمشهد زيارة قبر زوجها وهي تقول لأحفادها “أنا مابترك الشام قبر جدكم فيها”.
حماية الذات من الألم المحيط
وفي “نوافذ مغلقة” لامست المخرجة انتصار جوهر تبعات الأزمة وانعكاسها على الشخوص من خلال تباين ردود أفعالهم، فكان إغلاق النافذة بمثابة الفصل العام عن الذات بغية الهروب من الإحساس بألم جديد يوقظ براكين مازالت متوقدة، وتدور أحداثه في حارة ضيقة تتصاعد الأحداث مع انتظار الأب جثة ابنه الشهيد وصرخات أمه تناديه، لتقف حبيبته المنتمية إلى طائفة أخرى مذهولة أمام النافذة تحمل بيدها رواية تقترب من قلبها الجريح، في حين يغلق الجندي الآخر الذي شهد واقعة استشهاد زميله إثر انفجار قذيفة النافذة لأن زوجته استقبلته ببرود إزاء صرخات أم مفجوعة، لنرى في منزل آخر استغاثات امرأة يفتك المرض بجسدها تتأوه تطلب إغلاق النافذة خوفاً من اقتراب الموت ليرد صدى صوت زوجة ابنها القاسي البعيد عن الإنسانية “الموت لها رحمة”، ليبقى والد الشهيد جالساً عند مدخل البناء ينتظر الشهيد ويمرر الزمن الذي يطعن قلبه بحبات السبحة بين يديه، ركز المخرج على المسار الدرامي الواقعي وتنَقُل الكاميرا لصور متتابعة من خلف النوافذ.
هالة والملك
وضمت العروض الأخيرة للأفلام رؤى مغرقة في الإنسانية تخترق ثنايا الروح وتبوح بآلام الفقد بصور شتى كفيلم “هالة والملك” للمخرجة يارا سليمان، التي نجحت بتجسيد حالة وقوع الأنثى أسيرة حب قديم ووقوفها على شاطئ الوهم والتعايش مع الماضي اعتمدت المخرجة على التماهي بين الخيال والواقع من خلال يوميات فتاة تركها حبيبها وسافر فتهرب من عوالم وحدتها إلى تخيّل وجوده معها وذهابها للقائه، لتصدم بأن الباب مغلق عليها لاشتداد مرضها النفسي الذي يعجز الطبيب عن إنقاذها منه، وتكمن جمالية الفيلم ببعده العاطفي وقدرة عازف البيانو إياد جناوي على توظيف نغمات البيانو بإطار مفعم بالحزن العميق المعبّر عن أصعب منولوجات البوح للذات .
وفي “ضجيج الذاكرة” عبَرت المخرجة كوثر معراوي متاهات الأزمنة وجسدت بشاعرية مطلقة مغلفة بحزن الذكريات المدفونة في أعماق الذات والتي لاتموت إلا معها، وتمكنت ببراعة من التعامل بتقنية الدمج بين زمنين الحاضر والماضي وأوضحت الخط الرابط بينهما، من خلال عشر دقائق موظفة بدقة تناولت قضية العنف ضد المرأة وأثره على الأطفال، وتسرد قصة الفيلم حكاية طفلة ترى والدها وهو يضرب أمها ضرباً مبرحاً فتحاول حمايتها لكن دون جدوى. وقد اعتمدت المخرجة على المزاوجة بين الصمت المطبق في أغلب المشاهد وتداخل بعض الجمل المقتضبة.
كما تميّز الفيلم باللمسة الشاعرية التي اتسمت بها لغتها السينمائية، إذ صوّرت الفيلم في منزل دمشقي قديم وركزت على البحرة والنباتات المحيطة بها وعلى الأبواب الخشبية والنوافذ المغلقة كنوع من الارتباط بين روح المكان وحاضرها لاسيما أنها أصبحت فنانة تشكيلية، ناوبت بين الإضاءة الليلية والنهارية والتقنية اللافتة التي استخدمتها هي الصورة المركبة بين ماضيها وحاضرها، وركزت كاميرتها على اللوحات التشكيلية المعلقة على الجدران للفنانة ميساء محمد والتي صورت رومانسية الأنثى وجمالها ومعاناتها ضمن إطار محدد رغم كل التحرر، في المشاهد الأخيرة يتغير مسار الشخوص فنرى الأب في خريف العمر يأتي لزيارتها لكنها تشيح عنه وتحمل حقيبته ولا تخفي علائم الامتعاض على وجهها لأنها لم تستطع أن تسامحه، وينتهي الفيلم بمشهد مؤثر حينما ينهمر المطر بغزارة على اللوحة التشكيلية المعلقة على الخشبة الاستنادية والتي لم تكتمل بعد لتختلط ألوانها وهياكل نسائها بحبات المطر وبالحزن والانكسار الذي يرافق كثيرات في أي مكان في العالم.
مِلده شويكاني