من الجولان إلى فلسطين “أبعد من نهار” وذاكرة المكان
“أبعد من نهار” دفاتر الزفتية، هي العمل الروائي الأول للقاص والروائي أيمن الحسن الذي اختار الزفتية مكاناً لروايته، ليتحدث عن معاناة الناس هناك، بدءاً من قضية النزوح، وشوقهم للعودة، إضافة لحديثه عن نكسة حزيران، وصولاً إلى حرب تشرين التحريرية، ولأهمية هذه الرواية أدرجت موضوعاً لإحدى ندوات أيام الثقافة الفلسطينية النقدية التي مهّد لها القاص أحمد جميل الحسن، مؤكداً على دلالة العنوان الذي اتخذته أيام الثقافة الفلسطينية من “دمشق إلى القدس”، أو “سورية تنهض وفلسطين تقاوم”، لأن سورية في الحقيقة تنهض رغم الألم، وفلسطين تقاوم رغم الجراح، كما أكد الحسن أن هناك تمازجاً بين الشعبين السوري، والفلسطيني على مر التاريخ، ما يجعل إحياء أيام الثقافة الفلسطينية إحياء للثقافتين السورية، والفلسطينية معاً.
تلاقح الأجناس الأدبية
بدأت المداخلات النقدية التي تناولت رواية الحسن مع الناقد أحمد هلال الذي اعتبر أن رواية “أبعد من نهار” التي كتبت في زمن سالف عام 2009 لم ينغلق زمنها، ولا موضوعاتها، فهي ذات خصوصية في مشهدنا الإبداعي، كما أن العتبات النصية المصاحبة في النص تكاد تشكّل متناً حوارياً، وحكائياً للرواية، ولكن مع اضطراد العمل الروائي تضعنا هذه العتبات الكبيرة التي تتباين في دلالاتها، ووظيفتها أمام سؤال: هل تؤدي هذه العتبات دوراً تشاركياً للقارئ، بحيث تدخله إلى متنها الروائي فتصبح أيضاً متناً حوارياً للرواية، ليقول الروائي من خلالها ذلك القول المتعدد في نسيج الرواية، بمعنى ما الدور الذي تؤديه هذه العتبة النصية، واعتبر هلال أن الرواية في توسلها للحداثة تذهب لإثارة العديد من الإشكاليات التي لا تكتفي بالأبعاد الفنية ومدى ما تحمله من تجريب، واجتهاد، فثمة ما يمكن أن نطلق عليه الإشكاليات الإضافية بصدد العلاقة مع التاريخ بوصفه شاهدا،ً ومع المدونة التاريخية بوصفها حلقة اتصال، أو انفصال، وهنا يؤكد أنه في هذا المستوى من ثيمات الرواية يتبدى شغل الروائي في مساحات شائكة، وملتبسة، وطرح هلال تساؤلاً مفاده: كيف أسس الروائي فضاءاته السردية بالخطابات الموازية، أي المصاحبة لمتونه السردية، وهذا ملمح مما نقصده بالحداثة الروائية، فبقدر ما يثير خطاب العتبات من أسئلة، سنجدها في المتون الموازية، والشارحة، وبما تعنيه من بؤر دلالية تفيد انكشاف المتن الروائي، وتتكئ عليها حكايته الممتدة في زمنها عبر تاريخ نعيشه: نكسة حزيران، وحرب تشرين، وتحرير القنيطرة، وما يعادلها من ثيمة أساسية هي فكرة النزوح، والعودة، وعبر محكي روائي يذهب إلى تفاصيل أولئك البشر الحالمين بالعودة إلى ديارهم، ولكن هل أنتجت العتبات الموازية لدفاتر الرواية الثلاثة متناً حكائياً موازياً؟.. هذا السؤال سيسفر عن أسئلة إضافية تذهب إلى الصوت الروائي، ومساءلة الحوافز النصية، والتأليفية، والواقعية، والجمالية، والتي نجد لها الكثير من المعادلات في الرواية، كما رأى هلال أن غرض الروائي في خطاب عتباته ليس جميعها استعراضياً، بل هو غرض ثقافي بامتياز.
المؤرخ والروائي الشبيه المختلف
المحطة النقدية الثانية كانت مع د. عاطف البطرس الذي اعتبر أن رواية “أبعد من نهار” عمل محظوظ، لاقى اهتماماً نقدياً يليق به، مؤكداً أن هناك من اعتبره إنجازاً متقدماً في تاريخ الجنس الروائي، ومنهم من قلّل من أهميته، ووجه الملاحظات إلى بنيته التكوينية، متهماً إياها بشيء من الخلل، واعتبر البطرس أن حكمنا على هذا العمل، وموقعه بالنسبة إلى تاريخ جنسه، وما أضافه إلى ذلك، سيجعلنا نصدر حكماً فيه شيء من القسوة، أما النقطة الثانية التي رأى البطرس أن العمل يثيرها فهي العلاقة بين القصة القصيرة والرواية، وبعد قراءته الثانية للرواية يقول: قراءتي الثانية أرتني أن القصص فيها ليست جزراً متقطعة، وإنما هناك روابط تجمعها، لكن الرواية كمنظومة تشكو من شيء من القلق زادته دلالة العتبات النصية، وتقسيمات الرواية، إلى حد أن هذه التقسيمات كانت مربكة للقارئ، فقد أرهقت النص كبنية سردية، وأضعفت حكاية الدراما، محدثة تقطيعاً أخلّ ببنية العمل، ولو شذبنا بعضها لجمعنا أو قرّبنا هذه المتفرقات، وجعلناها منتظمة في خط سردي لا يعيق بنيتها الدرامية، فالرواية تثير قضية العلاقة بين المؤرخ والروائي التي لا يمكن تجاوزها في هكذا عمل، لأنه يشدنا باتجاه الوثائقية، مع التأكيد على أن مهمة المؤرخ لا تتطابق مع مهمة الروائي وتكوينه الثقافي، والمعرفي، ووظيفته وقصديته من عمله، مع الأخذ بعين الاعتبار أن النص عندما يخرج من المؤلف قد تصبح له قصدية أخرى قد تتعارض مع قصدية المؤلف، وهناك عنصر آخر هو اللغة عند الروائي والتي تعتمد على الانزياح ومفارقة اللغة المألوفة بينما اللغة عند المؤرخ تعتمد الدقة والموضوعية والحياد، لكن التقاطع بين المؤرخ والروائي موجود ويمكن أن نطلق على هذه العلاقة الشبيه المختلف، فالتشابه بينهما يقوم على أساس الاختلاف. وعن الشخصيات في الرواية رأى البطرس أن المؤلف حشر في الرواية الكثير من الشخصيات وبعضها ظهر لمرة واحدة ثم اختفى، وكان يمكن التركيز على شخصيات متميزة وملفتة للنظر، كما استخدم الروائي تقنية الاسترجاع بشكل أساسي وكان موفقاً فيها إلى حد. وأكد البطرس في ختام مداخلته على أن “الزفتية” في مخيلة المؤلف كانت أكثر حضوراً وهو يبدو أكثر اطلاعاً عليها وعلى تفاصيلها من القنيطرة حيث يشعر القارئ أن المؤلف ابن هذه الحارة. أما لغة الرواية بانزياحاتها وتشكلها لا ترقى في الحقيقة إلى ما اعتدنا عليه من لغة عند المؤلف في كتابته القصصية، لكن في روايته كانت هناك قصدية أن يتحدث الأبطال بلغتهم بعيداً عن لغة المؤلف وهذه ميزة هامة جداً.
المشهدية ملفتة في الرواية
بعد القراءات النقدية قدّم الناقد عماد فياض رأيه بإيجاز وركز على العنوان الفرعي للرواية “دفاتر الزفتية” بما فيه من دلالة على ذاكرة المكان الذي تحمل الرواية توثيقاً له مع الحدث، مؤكداً أن ما يلفت النظر في الرواية هو المشهدية وإدخال الروائي اسمه واسم صديقه فيها، وقد كشف الروائي نفسه دون قناع ليرينا هؤلاء الناس البسطاء. أما كثرة الشخصيات في الرواية فوصفها فياض بـ “الزفة الشعبية” معتبراً أن الروائي قد أعطى دوراً لكل الشخصيات. أما عن كونها شخصيات غير ديناميكية كما وصفها د. البطرس فقد أكد فياض أن ذلك ليس عيباً لأن الحسن قدم شخصيات بسيطة من الشارع.
نوع من التجلي للارتقاء بالفن
وكان للناقد عمر جمعة رأيه الموجز أيضاً وفيه تحدث عن نزوع الكتاب والشعراء والقاصين خلال الـ25 سنة الأخيرة إلى موضوع التجريب، معتبراً أن ذلك يمثل نوعاً من التجلي للارتقاء بالفن وفتحه على أبواب أخرى لا تقتصر على جنس معين، وهذا الانفتاح في الفنون على بعضها من شأنه أن يجعلها تقدم شيئاً من الإقناع والإمتاع. كما رأى جمعة أن الروائي أيمن الحسن تأثر في روايته بمشهدية التقطيع السينمائي مختتماً برؤيته للعلاقة الجدلية بين المؤرخ والروائي والتي اعتبرها جمعة ملمحاً جديداً من ملامح الارتقاء بالشكل الفني والموضوعي للرواية.
جلال نديم صالح