ثقافة

نازك الملائكة.. رائــــدة الشـــــعر الحــــــر

نازك الملائكة.. اسم له حضوره الهام في تاريخ القصيدة العربية الحديثة. فتجربتها الشعرية والدور الذي لعبته في مجال النقد الشعري مهّدا لها لتتبوأ سريعاً أكبر مركز أدبي وصلت إليه امرأة عربية حتى ذلك الوقت. لقد برزت في ميدان الأدب قائدة، رائدة في الحقلين الشعري والنقدي، وحمل اسمها في فترة الخمسينيات، مرحلة التجريب الحاد في الشعر العربي، رنة سحرية وألقاً باهراً في العالم العربي كله، وهذا إنجاز لا يستطيع أحد أن يأخذه منها، وبهذا فإن إنجازاتها مأثرة إنسانية كبيرة، ومَثَلٌ متوهج على تفوق المرأة المبدعة وقدرتها على تجاوز مثالب عصرها.

نازك الملائكة شاعرة عراقية بدأت نظم الشعر العامي قبل عمر سبع سنوات، وفي سن العاشرة نظمت أول قصيدة فصيحة. تركت وراءها سمعة أدبية وشعرية رفيعة، بوصفها الشاعرة النجمة التي سجلت اسمها مضيئاً في صفحة الشعر الحديث، فمنذ الخنساء لم تظهر شاعرة بقامة وأهمية نازك الملائكة وبالقيمة الرفيعة في هوية صوتها الشعري، خاصة وأن  الدور الذي نهضت به نازك الملائكة ليس في مستوى القصيدة الأولى، وإنما في الاستمرار بالتجربة وفتح مسارب جديدة، شكّلت النهج المبكر للقصيدة الحديثة من خلال جهدها الشعري في دواوينها الأولى التي مثلت صورة قريبة لما أرادته في المستوى النقدي والنظري. وإذا كان من ميزة فريدة تميزت بها الملائكة مقارنة مع الرواد الآخرين (بدر شاكر السياب، عبد الوهاب البياتي…) فإنها تتمثل في مقدرتها على الجمع بين الشعر والنقد، أي بين إبداع القصيدة الجديدة وإمكانية تقديم دفاع نقدي جاد يرسم خصائص تلك القصيدة ويحاول أن يكتشف احتمالاتها وخياراتها المتعددة. ويظهر هذا الجهد النقدي في كتابها المبكر (قضايا الشعر المعاصر) الذي بذلت فيه جهداً رفيعاً لتحديد مفهوم الشعر الحر كما تتصوره، ولعلاقته بالشعر العربي الكلاسيكي، ثم بجهدها تحديد جملة من السمات الفارقة التي تتصور أنها تميز قصيدة الشعر الحر أو القصيدة الجديدة آنذاك.
أشعلت نازك مع السياب والبياتي منارة القصيدة الجديدة في تفاعلاتها مع الواقع العربي، وفي تصورها للمخيلة الجديدة التي تتيح صورة مغايرة ومجددة، وفي استعمالها للأسطورة وفي علاقتها مع الموروث. وقد ركزت على القيمة الموسيقية والإيقاعية للشعر الحر، ورأت أن موسيقى الشعر الحر أحد أبرز جوانب افتراقها عن الشعر الكلاسيكي. وقد اخترقت تلك الحدود الإيقاعية الصارمة عبر الشكل الموسيقي الإيقاعي الذي طبقته في قصائدها لكن من دون التفريط بالعنصر الإيقاعي تفريطاً تاماً، بل إن حرصها على الإيقاع قد يبدو اليوم نوعاً من الكلاسيكية الجديدة، حيث ألحت على عناصر الوزن والقافية. فالتجديد عندها ليس مجرد إعلان الثورة وإنما هو تقديم منظور متكامل يعلن بدائله بعيداً عن ميول الثائر من رغبتهم في التخريب والتغيير. لقد ساهمت نازك بفعالية في تحقيق الاعتراف بالشعر الحديث وفي إيصاله إلى الجمهور العربي من خلال طريقتها التجديدية التي لم تعلن قطيعتها التامة مع التراث سواء من  ناحية الإيقاع أو النواحي الرؤيوية والتعبيرية، بل إن الموروث يبدو أحد ميزات شعر نازك وثقافتها، ومعنى هذا أنها حاولت أن تصبغ رؤيتها التجديدية بلمسة تراثية تجعلها تجديداً من داخل التجربة العربية ومن صميم حركتها الشعرية، نازك الملائكة عاشقة الليل والتجديد كان خيارها الاعتدال في التجديد ليكون تجديداً منطقياً ومعقولاً، مثلما اختارت أيضاً في قصيدتها البقاء في منطقة معتدلة بعيدة عن مبالغات الشعراء وعن ذهابهم إلى المناطق القصوى في التعبير والتشكيل الشعري. فقراءة نازك الملائكة قد لا تكون سهلة لأولئك القرّاء الشغوفين بشعر المناطق القصوى ومقدرة الشعر على التهويل والمبالغة، لكنه حتماً شعر تقدمي في رؤيته العربية وفي اختياره لطريق الاعتدال والتوازن، إن قراءة منصفة وموضوعية لجهود الشاعرة نازك الملائكة ستجعلنا ندرك بوضوح أن جوهر مشروعها الشعري والتنظيري كان ينصب على تقديم نموذج شعري عربي حداثي، يتخذ من قصيدة الشعر الحر إطاراً له، ويطمح إلى تأسيس رؤية شعرية عربية حداثية بديلة
ابراهيم أحمد