مفيد عيسى أحمد.. الواقع بسرد مختلف..!
صدرت للأديب مفيد عيسى أحمد روايته الأولى بعنوان: “الماء والدم”، وتأتي هذه الرواية بعد مجموعتين قصصيتين صدرتا عن وزارة الثقافة: الأولى بعنوان “ثلاثة نداءات وتصبح نجمة”، والثانية بعنوان: “البطل في وقفته الأخيرة”، والرواية التي نتحدث عنها كانت قد حصلت على المركز الأول في إحدى المسابقات المقامة بمصر، ولكن تم إلغاء ذلك بسبب المواقف الوطنية للأديب أحمد، كما جاء في تبرير المركز صاحب المسابقة.
الرواية تؤرّخ لفترة الستينيات في سورية من خلال رصد واقع الأحداث، وجملة من العلاقات الاجتماعية، والثقافية، والسياسية في المنطقة الساحلية، وفي طرطوس وريفها بالذات، ولو أن معظم الأحداث تدور في المدينة التي كانت تتحول شيئاً فشيئاً من تجمّع لعدة بيوت وعشوائيات وحارات، إلى مدينة أطرافها شكّلتها حارات عشوائية تجمع بيوتاً مكونة من غرفة إلى ثلاث غرف، بالإضافة إلى أناس انحدروا من الريف، وآخرين من مدن أخرى كطرابلس وحمص واللاذقية وغيرها.
لقد برع الأديب مفيد أحمد في وصف تلك الحقبة بدقة كاملة، حيث يشعر القارئ وكأنه يعيش أحداثها بكل ما فيها من مصطلحات وأماكن وطرق ترابية، وحتى ما كان سائداً من محطات للراديو كصوت العرب من القاهرة، وغير ذلك ممّا اختاره الراوي ليكون ملعباً له يصول ويجول فيه منتقلاً من حدث إلى آخر، ومن قصّة إلى أخرى بلغة شيّقة مطواعة سهلة ومستساغة بعيدة عن التكلّف والتعقيد.
لن نبتعد عن الحقيقة إذا قلنا بأن القارئ سيلاحظ بعد الصفحات الأولى بأن الراوي قد اختار طريقة للسرد تختلف عمّا ألفناه في روايات محلية وعالمية أيضاً، وكأنه يبتدع طريقة يريد أن يقول من خلالها: هاأنا أجدّد في السرد الروائي كما جدّد آخرون في الشعر والمسرح والقصّة، فكل فصل في الرواية، وكل حدث هو رواية بحدّ ذاتها من خلال اعتماده على المقاطع الصغيرة متداخلة الأحداث مفتوحة النهايات، لكنها في مجملها متداخلة برباط قوي وشيّق.
لقد اعتمد الأديب أحمد على شخصيات من الواقع كالجردي الذي مازال امتداد عائلته قائماً حتى يومنا هذا في طرطوس، إضافة إلى شخصية حامد الشماميس، وهي الشخصية المعروفة كثيراً في طرطوس، والتي صوّرها الكاتب بشكل مختلف عمّا هو متعارف عليه عند البعض في طرطوس ممّن لم يعرفوه عن قرب، وكان لحامد هذا الأثر الواضح في تحريك بعض أحداث الرواية، وفي اطلاعنا على حيثيات الواقع في تلك المدينة آنذاك.
لقد كان الراوي صادقاً في تصوير واقع الحال في الساحل السوري، وخاصة في طرطوس في تلك الفترة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد كانت قدرته الفنية على تجسيد ذلك الواقع من خلال صياغة الحدث صياغة حيّة تشاكل الواقع، وتتماهى معه، وتستمد منه أكثر مقوماتها دون أي تكلّف تستحق التقدير والثناء.
يمكننا القول بأن الراوي برع وتميّز من خلال دخوله إلى صميم الواقع والشخصيات، وقدرته على أن يلتقط ويسجل أبسط المظاهر فيه، فجعلنا نعجب، بل ونصفق في داخلنا على ذكائه في اختيار اللقطة، إنه وإن كان قد رسم صورة كبيرة لطرطوس المدينة التي تتشكل، وللريف الرازح تحت الفقر والظلم والخوف، فإنه كان يعمد إلى تصوير صغائر الأمور، وفتات الحياة ليصنع من هذا الفتات، وهذه الصغائر مادة مثيرة ومشوّقة وقادرة على إيهامنا بالواقع تماماً، بل والإقرار بأننا حين نقرأ الرواية لا نكاد نفرّق بين أن نكون في حالة حلم، أو حالة صحو ويقظة.
إن الراوي في بحثه الدائم ضمن ثنايا الواقع يصل إلى الحقائق الكبيرة، وهو يبدو مجيداً في صياغة هذا الواقع، وما الرسم الدقيق لتلك التفاصيل إلاّ دليل كاف على خبرته في الحياة، وفي البحث بين زواياها، إضافة إلى خبرته الفنيّة التي بدت جليّة من خلال الأداء الفني، والأسلوب المتميّز.
أعتقد، بل أجزم بأن الحديث هنا يبقى ناقصاً إذا ما أردنا دراسة فنية للرواية، ولكن يكفينا القول بأن الراوي من خلال تعريته للواقع الذي رسمه قد أدان هذا الواقع وعرّاه، وأدان بعض الحلول المجحفة التي فرضها، والتي – على ما يبدو- مازلنا حتى يومنا هذا نعاني من عقابيلها، ومؤثراتها.
رمضان إبراهيم