“ثــــورة المعلــومــــات لا تعنـــــي بالضّــــرورة ثـــــــورة المعرفــــة”
“الإعلام الغربي بكل عناصره وعنصريّة ساسته يدور في فلك واحد وهو امتلاك الفضاء العربي بأسهل الطرق وبأقل التكاليف من خلال محطّات فضائية تشتعل بالفتن لتحقيق هدفه في فتح طريق شرق أوسط جديد يخدم مصالحه ومصالح الكيان الصهيوني”.
“والإعلام العربي لمْ يستطعْ عبر تاريخه الطّويل مجاراة غيره، وبقي عاجزا عن تغيير المفهوم الغربي عن العالم العربي بصورة خاصة والإسلامي بصورة عامة، حتى أضحى الإرهاب في نظر الغرب مرتبطاً بالإسلام وبصورة الإنسان العربي”.
والسّؤال الكبير الذي يطرح نفسه هو: ما العمل كي يواجه العرب الإعلام الغربي مواجهة عقلانية؟ يعتقد الدكتور “هزوان الوز” في كتابه (الإعلام– أدوار وإمبراطوريات) أنّ السبيل إلى ذلك يمر عبر [تحصين الجبهة الداخلية للصفّ العربي، وتوحيده وإصلاح مكامن العجز فيه، والحوار المتواصل الهادئ مع الإعلام الغربي على اختلاف مشاربه].
ثم يتابع مستشهداً بكلام الباحث”جميل حجيلان”: [لن يحقّقَ الحوار مقاصده إلا إذا احترمنا ذكاء الآخرين، واعترفنا بقدرتهم على فهم الحقائق في عالم لم يعدْ يجدي فيه الاختباء أو الهروب] خصوصاً، وأنّ القرن الحادي والعشرين أتى مبشّراً بعصرٍ جديدٍ أصبحت للإعلام فيه الكلمة الأولى في ظلّ ثورة الاتصال والمعلومات(…) هذه الثّورة التي أدّت لإحداث تطورات ضخمة في تكنولوجيا الاتصال والمعلومات(…) ليصبح العالم قرية كونيّة الكترونيّة صغيرة [global village].
الكتاب بقوادمه وخوافيه يتكئ إلى هذين الجناحين محلّقاً كطائرٍ فتيٍّ في فضاءات مختلفةٍ متوخّياً تقديم المعلومة المبسّطة لتكون في متناول الجميع، وهذا يرشّحه باعتقادي ليغدو من ضمن المواد التّعليمية في كليّة الصّحافة والإعلام وكذلك في المنهاج التّدريسي، ما قبل المرحلة الجامعية ولكنْ ما يلفتني حقيقة هو تلك المنبريّة (القديمة،الحديثة) في خطابنا الثّقافي الذي بقي رهين الشّعاراتيّة والتّعميم (تحصين الجبهة الدّاخليّة، توحيد الصّف، إصلاح مكامن العجز، وحديثاً أضيف مصطلح “الحوار” مع تفتّح زهور “الرّبيع العربي” ولا أدري إذا كانت زهوراً حقّاً)؟!.
ولكن أليستْ المشكلة بجوهرها “بنيويّة، مركّبة” قبل أن تكون “ترقيعية، إصلاحية” نستجدي بها من كان سبب الدّاء، ليهبنا الدواء؟ ألا تتعلّق بشكلٍ كلّيٍّ بآليّة تعاملنا مع كامل تراثنا وحاضرنا وذواتنا والتّي ستنعكس بالضّرورة على طبيعة فهمنا للآخر، هذا الآخر الذي تفصلنا عنه مجموعة كبيرة من الفجوات (الفجوة الرقمية، فجوة الاتصالات، فجوة العقل، فجوة التّعلّم، فجوة الّلغة، فجوة اقتصاد المعرفة الخ..).
ثمّ كيف سيكون “الحوار” بيننا وبين الآخر ونحن الذين لا ينمو في داخلنا سوى “المونولوج” والخوف من الرّقيب كما قال المرحوم “سعد الله ونوس” نتيجة هذا التاريخ الموغل في إقصاء العقل، ألسنا بحاجةٍ لتدرّبٍ طويلٍ على تعلّم أبجديّات هذه المفردة وتمثّلها؟ ألا يعني الحوار مع الآخر ونحن بهذه السّلبية، تسليماً بثقافته الغازية؟ ثمّ أين هي النّديّة في التعامل معه ونحن الأضعف؟.
مع ذلك فمحاور الكتاب يحكمها هذا التّشخيص الصّادق للمشكلة والذي ينوس في اتجاهين: إعلام محلّي هزيل يجب إصلاحه بما يتناسب وروح العصر، ولكن كيف، وبأيّة أدوات؟ وآخر غربي قويّ التأثير يمتلك الأرض والفضاء مستفيداً من كلّ ما توصّل إليه العلم والتكنولوجيا في تصدير أفكاره وثقافته على حساب الهويّات القوميّة التي وجدت نفسها “عارية” أمام مآزقها التّاريخيّة والايديولوجيّة فلمْ تجد مفرّاً من الهروب إلى قواقعها الذاتيّة واجترار أوهامها، وهذا ما جعلها بدوره، تقع فريسة تقديسٍ للذّات، وما يصدر عنها من إعلامٍ مرضيّ هو الآخر مقدّسٌ لا يجوز المساس بخطوطه الحمراء وهيبته.
هكذا بقى الإعلام المحلّي، يقدّم وجباته الممجوجة دون كللٍ، مساهماً بهمّة عالية في تسطيح المعرفة في عالم الانفجار المعرفي، ومعمّقاً لفجوة العقل العربي في زمن الانفتاح وكسر الثنائيات الضّدّيّة واليقينيّات، هذا العقل الذي نُوِّمَ على مدى عصور كاملةٍ إلى درجة أنّه بات يشكو من قصورٍ بنيويٍّ حادّ منعه من الابتكار ومحاولة إنتاج المعرفة، وجعله رهين السلفيّة والتقليد، أسير ثوابته القارّة، وغير مدرّبٍ على التوجّه المنظومي، حيث يقع دوماً في تهويمات التعميم والنّزوع نحو الواجب والقاطع والمحكم، ومنحازاً إلى السّائد والعرفي على حساب المستجدّ والمتغيّر، ويلحّ على الإجماع وينفر من التعدّد والاختلاف، كما أنّه عقلٌ يمتهن السّالب ويخاف اللاّيقين، ولا يستأنس بالمشوّش وغير المكتمل، ويستهجن غموض الشّعر ولا موضوعيّة الفنّ التّجريدي، ولا يستوعب الّلامحدود والّلانهائي، ولا يروقه أنْ يكون للفوضى علمها وللتعقيد سحره، وأنّ المعرفة ليست واقعة نهائيّة، وهذا بدوره حرمه من الجرأة في اقتحام المناطق المهجورة من فكره، واختراق أسيجة التحريم والتجريم المقامة حوله الخ..
ورغم انكشاف بعض أسرار التّضليل الإعلامي، فاقد الأخلاقيّة والمصداقيّة الذي تمارسه القوى الكبرى لتبرير وحشيّة تدخلها عبر خلقها بؤر توتر دائمة في مختلف بقاع العالم، فإنّها تمارسه بأشكال متشابهة حيناً ومختلفة حيناً آخر، واضعةً السّمّ في الدّسم كما يقال، مستفيدة من خنق وتجهيل الأنظمة الوطنيّة لشعوبها، ومن قدرة قنواتها على تشويه الوقائع تحت ذرائع مختلفة وخير مثالٍ على ذلك ما قاله الباحث”ميشيل كولون” واصفاً ما حدث للكاذب “ألستير كامبيل” وكان يشغل منصب رئيس الاتصال الخاص بـ”طوني بلير” رئيس الوزراء البريطاني إبّان الغزو البربري الأمريكي البريطاني للعراق، هذا الكاذب الذي زيّف المعلومات حول أسلحة الّدمار الشّامل المزعومة في العراق ممّا اضطّره للاستقالة بعد انكشاف أمره علماً أنّه كان هو نفسه من زوّد الإعلام بموادّه حول “كوسوفو” اليوغسلافية بنفس الطّريقة المزيّفة، والسّؤال هو: هل وُجد من يثير النّقاش حول سوابق هذا الشّخص؟ في الواقع هذا لم يحدث، لأنّ من أهداف وقواعد الإعلام الكاذب تنظيم (فقدان الذّاكرة لدى المتلقّي بعد أن يكون قد نجح في تشويه الصّورة أمامه، وغيّب التّاريخ الوطني الحقيقي للبلد المراد انتهاكه، وأخفى النّوايا الكامنة وراء غزوه له).. وهكذا نمت وازدهرت القاعدة الفضيّة التي تخصّ الإعلام المضلّل (اكذب اكذب حتى أصدّقك) أيضاً لتترعرع وتنمو بعدها القاعدة الذّهبيّة التي يقولها الكتاب: [من يسيطر على الإعلام، يستطيع تشكيل الآراء ومن يشكّل الآراء يصنع الأحداث].
ولكي تكون الصّورة أوضح حول الغزو الإعلامي الأمريكيصهيوني للعالم يورد الكتاب قولاً للدّكتور”محمود عبد الله” مفاده [بأنّ هناك ستّ مجموعات كبرى تعمل في الأنشطة الإعلاميّة على المستوى العالمي، أربع منها أمريكيّة وواحدة أوروبيّة وواحدة استراليّة أمريكيّة].
مجموعة واحدة من هذه الشّركات تكفي لتوضيح هذا الأمر وهي”نيوزكوربوريشن”، فهي تزاول نشاطها في الولايات المتحدة الأمريكيّة والمملكة المتّحدة والقارة الأوروبيّة واستراليا وآسيا وحوض المحيط الهادي، وعدد مشاهديها يفوق مشاهدي القنوات العربيّة كلّها وإيراداتها تبلغ سنويّاً أكثر من/23/ مليار دولار، أيّ ما يساوي ناتج/الأردن القومي، وأكبر من الاقتصاد البحريني، اللبناني، اليمني، السّوداني، الموريتاني، الصّومالي/.
ومؤسّس هذه الإمبراطورية المترامية الأطراف هو [روبرت كيث موردوخ] أحد أكبر الشّخصيّات الدّاعمة للكيان الصّهيوني والذي يمتلك/29%/ من أسهمها وتمتدّ أذرعه الأفعوانيّة إلى أربع قارّات، وطبعاً لا بأس أن يكون هناك شريك “لطيف” يساعده في أداء مهامه “الشّريفة والإنسانيّة” هذه ويمتلك/7%/ من أسهمها وهو الأمير الإنساني “جدّاً” “الوليد بن طلال” وربّما يوجد آخرون في الظلّ لا يقلّون عنه “لطافةً وإنسانيّة”!.
ويختتم الكتاب مقولته برؤيةٍ نظريّةٍ عامّةٍ تتعلّق بواقع وآفاق الإعلام العربي يقترحها الباحث المصري “السّيّد ياسين” وقد حظيت بقبول المؤلّف تؤكّد على عدّة عناصر أهمّها:
ـ1ـ ضرورة رسم خرائط معرفيّة للاتجاهات الايديولوجيّة في الوطن العربي(…) ستفيدنا في معرفة الواقع الذي نريد تغييره، وتحديد ملامح هذا التّغيير واتجاهاته، والقضاء على التّعميمات المسيئة للعرب والمسلمين التي تصوغها الدّوائر الغربيّة.
ـ2ـ تبنّي موقف رشيد من ثلاثيّة/الماضي، الحاضر، المستقبل/عبر تبنّي منهج علميّ ونقدي تكاملي، وضرورة ممارسة التّأويل بمناهجه المتعددة.
ـ3ـ حصر دقيق للمشكلات التي تعيق التّواصل الثّقافي الإيجابي بين/العرب والغرب/ كالتّطرّف والإرهاب.
ـ4ـ الدّعوة للإسهام العربي بمناقشة المشكلات الإنسانيّة العالمية/تلوّث البيئة، الفقر، الفجوة بين الموارد والسّكان(…)وهكذا يمكن القول انّ الإعلام العربي يمكن أن يلعب دوراً فاعلاً في /حوار الحضارات/ويجب أن يثبت العرب أنّ لديهم كفاءة معرفيّة تسمح لهم بالإسهام في مواجهة الإشكاليّات المعرفيّة والمشكلات الواقعيّة التي تواجه الإنسانيّة في القرن الجديد.
[الإعلام، أدوار وإمبراطوريات]
للدّكتور”هزوان الوز” إصدار وزارة الثّقافة/الهيئة العامة السّوريّة للكتاب/
أوس أحمد أسعد