قيامة مدينة بين الماء والدم
بين (الماء و الدم) يتمدد النسيج الروائي للكاتب مفيد عيسى أحمد في عمله الروائي الأول، كما تتمدد المدينة المسترخية على شاطئ البحر، وتتوسع قاضمة غاباتها وأشجارها وبياراتها، بفعل الوافدين إليها من الريف المحاذي لها من جهة الشرق، أو من المدن المجاورة. تندلع شرارة السرد من نبأ مفجع هو انفصال سورية عن مصر وانتهاء زمن الوحدة بين البلدين وابتعاد سورية عن خط الزعيم القومي جمال عبد الناصر بما يرمز إليه من دفاع عن الفقراء والمستضعفين، ومحاربة الإقطاع والملاكين، وكيف انعكس ذلك على قرية نائية في سورية، من هنا يبدأ الزخ السردي وتنفتح مسارات الأحداث بطريقة منضبطة ومدروسة كما يريد لها الكاتب، لتشكل شبكة من العلاقات المتداخلة أو المتصالحة أو المتناقضة، صحيح أن الرواية ترسم لنا نهوض مدينة و قيامتها (مدينة طرطوس)، لكن الصحيح أيضاً أن نقطة الانطلاق هي من الريف، وتتمثل بهروب حامد الشماميس من قريته إلى تلك المدينة بعيداً عن القتلة الذين قتلوا أباه و يلاحقونه، وكأن الكاتب يريد أن يقول لنا إن هذه المدينة بناها أبناء الريف، وبالتالي لن تخرج عن كونها قرية كبيرة بعلاقاتها وجغرافيتها.. حامد الشماميس الرجل الملحمي المطارد بخوف القتل والثأر، القوي جسدياً والهش نفسياً، الملاحق من أطياف القتلة وأشباح الموت، ومن صرخة أمه التي تزلزل كيانه: اهرب وإلا سيقتلونك كما قتلوا أباك. يفر من الأشباح ليحط رحاله في هذه المدينة فهو بداية الرواية المؤكدة وهو نهايتها المعلقة. تتعدد شخصيات الرواية ما بين الشخصيات المثقفة –الحزبية (كنعان، مروان، رافع) وشخصيات الحياة اليومية التي تكافح من أجل إيجاد حيز لها في هذه المدينة الناهضة. الجردي بأحلام الثراء وامتلاك النساء، الأصدقاء مروان وكنعان وخلافاتهما الفكرية وانتماءاتهما الحزبية، المرأة بحضورها الذي يضفي على الرواية جواً حميمياً جميلاً، حيث يقدم لنا الكاتب صوراً متعددة للمرأة: المرأة العاشقة، المرأة الماجنة التي أجبرتها الظروف على ذلك وتريد الهروب من ماضيها (رضوى)، المرأة الحالمة بالشعر والأدب (سامية)، المرأة العائدة إلى وطنها بعد زواج فاشل (ناديا) وغيرهن. يقدم لنا الكاتب هذه الشخصيات حيةً نابضة بحرارة القلب، متوترةً من قلق واضطراب الحياة حولها، لكنها في الأغلب يجمعها خيط من الانكسار الداخلي لأنها لم تحقق ما تصبو إليه، لا بل نجد بعضها يتعرض للقتل (عجيب) أو محاولة القتل (رضوى) أو يفر من القتلة (حامد). نجد في الرواية شخصية الانتهازي (الجردي) والمثقف السلبي (كنعان) والماركسي (مروان) والضابط القومي المطرود من الخدمة (رافع)، والكاتب لا يترك شخصياته جامدة في مسار واحد بل تتطور مساراتها وتتشعب حياتها وكل ذلك يزيدها حياةً وحيويةً. يستخدم الكاتب أسلوب الأحلام والتداعيات ليدخل إلى عوالم شخصياته الداخلية، وعندها يضفي شاعرية ورومانسيةً على لغته ومفرداته لتمسَّ المشاعر الإنسانية الأكثر صدقاً لدى الإنسان، لكنه لا يعقدها بالغموض والإبهام، فالطابع العام للغة الرواية السهولة والسلاسة والوضوح. بين (الماء والدم) يسيل قلم الكاتب مفيد عيسى أحمد يمتح من الاثنين معاً في مجتمع متقلب ومضطرب، ما أسهل أن يتحوَّل فيه الدم إلى ماء، أو الماء إلى دم مع كل ما يعني ذلك في مجتمع شرقي يتعرض للتغيير السريع والعاصف.
(الماء والدم) الكاتب: مفيد عيسى أحمد الناشر دار نون /الطبعة الأولى 2014
عماد الدين إبراهيم