حضور الدولة في الإنتاج يدعم حضورها في التسويق
بعد المزيد من شكوى وتململ المواطنين من غلاء الأسعار، وجشع التجار، ومن ضعف الرقابة التموينية، ومطالبتهم بضرورة الحدّ من ذلك، عبر استعادة وترسيخ حضور الدولة الفاعل، أصدرت السلطات الرسمية مؤخراً العديد من التشريعات والتعليمات التي تقضي بتعزيز وتنشيط عمل مراكز التجزئة القائمة وإحداث مراكز جديدة في أكثر من محافظة، وتزويدها بكم كبير ونوعي من السلع الاستهلاكية المتنوعة، واستثمار الوسائل الإعلامية لتوجيه المواطن باتجاه التسوّق من هذه المراكز، ما دفع كثيراً من المواطنين إلى تسوُّق حاجاتهم منها، انسجاماً مع مصالحهم المباشرة، المأمول تحققها نتيجة وجوب وجود انخفاض أسعار العديد من السلع الموجودة في هذه المراكز عن السعر المتداول في السوق، وأيضاً انسجاماً مع مصالحهم غير المباشرة، نتيجة الأرباح التي تحققها هذه المراكز، وتصبّ في الميزانية العامة للدولة، وتعود بدورها خدمات واستثمارات لمصلحة المواطن.
لعقود خلت من السنين، كانت مراكز التجزئة تغصّ بالمشترين طوال أوقات دوامها، خلافاً لما آلت إليه لاحقاً، وواقع الحال -من خلال زيارة الكثير من هذه المراكز والاستئناس برأي بعض المتسوّقين منها- يظهر بشكل جلي أن التسوق من هذه المراكز يتنامى، ولكنه ما زال أقل بكثير مما كان عليه الحال سابقاً، ودون المستوى المتوخّى والمنشود في الظروف الراهنة، ويعود ذلك إلى اعتبارات شتى، في طليعتها توفُّر السلع نفسها في المحلات التجارية الخاصة المنتشرة بشكل أكبر في الأحياء والقرى، وأغلبها يبيع العديد من السلع بسعر يماثل السعر المعمول به في مراكز التجزئة، وربما أقل لبعض السلع، نظراً إلى أن معظم السلع المتداولة في السوق -ضمن مراكز التجزئة وضمن المحلات الخاصة- هو من إنتاج القطاع الخاص أو المستورد من قبله، ما جعل المستهلكين يشيرون إلى ذلك بامتعاض.
ما زالت ثقة المواطن في الدولة محط اعتزاز وطني كبير، ويعود ذلك إلى تلمّسه إيجابيات حضورها السابق، واستمرار تحسُّسه محاسن هذه الإيجابيات رغم مضيّ زمن عليها، ما يستوجب أن تقوم بكل ما من شأنه تحقيق المزيد من تعزيز هذه الثقة، عبر إنتاج وتسويق السلعة الأجود والأرخص، والمزيد من مراكز التجزئة، وهذا يستدعي الأخذ بعين الاعتبار ضرورة مراعاة الآتي:
أولاً: العمل على إعادة تنشيط جميع منشآت القطاع العام الإنتاجية من خلال تدعيم إنتاج القائم منها على رأس عمله، وإحداث المزيد، وتمكين هذه المنشآت من إنتاج سلع منافسة -سعراً وجودة– لمثيلتها من السلع المنتجة والمستوردة لدى القطاع الخاص، وتسويق ما يمكن تسويقه من إنتاج هذه المنشآت عبر مراكز التجزئة القائمة والمتوجب إحداثها، وأيضاً تسويق حاجات المستهلك من منتجات القطاع الخاص، على أن يكون ذلك من مصدر الإنتاج مباشرة دون وساطة تاجر الجملة، واقتران ذلك بمزيد من تدقيق عمل لجان الشراء ونزاهة أعضائها، بغية منع هذه اللجان من تحقيق كسب غير مشروع، من خلال تسويقها سلعاً ذات نوعية منخفضة باسم سلع جيدة، وتضمين الفواتير أسعاراً لبعض السلع زيادة عن سعر شرائها الحقيقي، ما يتسبّب في تسعيرها ضمن مراكز التجزئة بما يساوي أو يزيد على سعرها في متاجر القطاع الخاص، لما في ذلك من أثر في إضعاف ثقة المواطن في المراكز وتنفيره منها.
ثانياً: توجيه القطاع الخاص للحدّ من استيراد أو تصدير العديد من السلع، وتشجيعه على استثمار أمواله في إنتاج الكثير من السلع التي يستوردها، وتجذير حضور الدولة في ميدان التجارة الخارجية –استيراداً وتصديراً– بما يماثل بل يزيد على الحال الذي كان عليه منذ عقود، شريطة تدقيق عمل لجان الشراء الخارجية، لما فيه ضمان توفير المادة الأهم بالجودة المطلوبة والسعر الأدنى، وتنفيذ رقابة سعرية مدروسة على المواد المستوردة، بما يتيح تحقيق ربح معقول للمستوردين والمسوّقين.
ثالثاً: إعادة النظر في كمية ونوعية عناصر الرقابة التموينية، وتفعيل دور هذه الرقابة، بالترافق مع تفعيل دور الرقابة الشعبية، من خلال جمعيات حماية المستهلك والمنظمات الشعبية والمجتمع الأهلي.
إن المصلحة الوطنية تتطلب تلازم حضور الدولة الفاعل في ميداني الإنتاج والتسويق معاً، ولجميع المواد الاستهلاكية والوسيطة، لأن ذلك يشكل مدخلاً أساساً لضبط أسعار جميع المواد، عبر تنافسية إيجابية بين القطاعين العام والخاص، ويؤمّن السلعة الأجود والأرخص، ويجذِّر الثقة المتبادلة بين المواطن والدولة، لما فيه مصلحة الاقتصاد الوطني.
عبد اللطيف عباس شعبان
عضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية