من أين تأتي الأفكار؟!
يتساءلون، بما يشبه الإلحاح، وسطوة هاجس بارز، عن «منبع الفكر»، وفي السؤال ما يشي بمستويات استفهامية، بمعنى «الماهية»، وربما استنكارية تحيل لمعرفة قلقة، تتوسل جواباً بذاته، وهي تؤسّسُ بالمبتدأ سؤالاً نافلاً!.
هل بالعودة إلى ثنائية الواقع والخيال، وأيهما الأسبق، والأكثر كثافة ودلالة، وقدرة على الإيحاء، ومدّ الجسور لمخيّلة أصبح «الواقع» معادِلُها بامتياز!.
والسؤال الكبير، بسياقاته سيتعدى، إلى الإبداع وبشكل أكثر خصوصية، إلى «الأفكار الروائية» ولا سيما فيما يكتب من روايات الآن، كأصداء لما تمر به سورية، من حرب عليها، غير مسبوقة في التاريخ المعاصر، ترى هل هي مرة أخرى، الحاجة أم الشغف بالتدوين، أم التقاط اللحظة، بحيث تغدو «بضعة» أعمال في برامجها السردية، أشبه بالمرايا العاكسة، والتي لا تنجو من مفردات الواقع ذاته، وحيث تتقحمها درامية الواقع، تبدو وكأنها في سباق مع الصحافة، الأسرع في الالتقاط، وفيما ينجز الواقع محكياته، تلهث الرواية دون أن تأبه للشكل، ودون أن تتمظهر بتقانات محسوبة، لتصبح «كاميرا» تسجّل بحيادٍ ملتبس أحياناً، إذ الأفكار متسارعة، محكومة الحبكات، تلهثُ إذن في إثر قارئ، لتنافس «الصورة»، وتتوسل التشكيل، لتنجز عمارة لرواية منشودة لكن، الأفكار، هي الأفكار أولاً، ودلالتها في نسيجها، وليس فسيفسائها، فثمة فرق، لغوي وجمالي وتركيبي، ليس مطلوباً المحاكاة، سواء كانت عفوية، أو واعية، وليس للشرط الإنساني، أن يكون معزولاً عن شروط أخرى «معايير» متحركة، مرنة، فثمة الشرط الفني، وغير ذلك مما تنفتح عليه الحساسية من قوة التعبير الذي يماثل الماهية السورية ثقافة وفكراً، ويدرك تأثيثها في النفوس والوجدانات، وفي الوعي، لا بأس بالتأسيس، لكنه الأشدّ ضرورة لحامل معرفي-ثقافي، يناهض العدوان وآثام الإرهاب وخطايا الاستلاب، وأنساقه الفكرية المخاتلة، وقيمة ما يكتب هي، على الأرض ذاتها، وليس من أرضٍ سواها، ليكتب الروائيون-على سبيل المثال- عن واقع شعبهم المكافح، لا عن واقعهم هم، الذي لا حاجة لواقع بديل عنه وكي لا تهيم-الأفكار-على وجهها حتى تتشظى في المرايا، فقد أضاف الواقع بمتخيله، للإبداع وبشيء من التعميم، للكتابة أفكاراً، تضع الممارسة الثقافية للإبداع، وللرواية على وجه الخصوص، على محكٍّ، لمعدن التجربة، ونسبها مع الإبداع، فمن أين تأتي الأفكار، كي لا تصبح الرواية بهذا المعنى شكلاً آخر، للمقالة السياسية، أو الأخلاقية، وتصبح ركام كلمات لا شأن لها، سوى الندب والرثاء، أو الذهاب إلى «يوتوبيا» النقاء الخالص! فهي معنية، بكتابة التناقض الأساسي، لما يهدم، ولما يذهب بنا إلى العدم الصريح، دون أن تجاوز حدود الوعي التاريخي-العام والخاص بآن معاً، وأن تبشّر، دون بلاغة منجزة، ما لم تستلهم بلاغة الناس، لتكتب وعيها الروائي بالوطن، وعلى طريقة ما تصبح رواية مقاومة لكل مفردات القبح، وحافزة على الجمال الذي تختزنه الثقافة الوطنية، بمرجعياتها ودلالاتها الخصبة دونما اختزالها.
وعلى خط الأفق المعرفي، كان الشهيد غسان كنفاني، والروائي الكبير حنا مينة، ومن قبلهم الراحل صدقي إسماعيل، وسواهم من الرائين الأحياء.. يجيبون على السؤال الشهير: من أين تأتي الأفكار، يجيبون بالكتابة، والكتابة، والسهر في ضوء آلام الوطن، وكيف يكونون هم ناسه، أحلامهم، وضحكة قلوبهم، والألم الجليل، كيف يصبح فطنة أرواحهم، ليدرأوا الموت عن أوطانهم، ويكتبون نشيد الحياة، في مقامه الأرفع، مسّرة للفكر، وتوقاً لعقول جميلة..
أولئك المبدعون، لم يقفوا على مسافة من الأفكار بل كانت هم ذواتهم، التي عجنت أرواحهم لتصبها في نسيج كلماتٍ مازالت تحرس كل مدياتهم الأكثر شغفاً بالضوء ليس بالضوء العابر بل بالمقيم.
أحمد علي هلال