ثقافة

وقوفاً… فللحرية وجه أخير.. هنا غزة.. هنا فلسطين

لمن تقرع الأجراس؟!
غزة هي الآن.. فلسطين، ويشهق بحرها، الكثيف الدم، وترتفع موجة إثر موجة لتشقّ الصمت المريب، لا وقت للوقتِ في صيرورة الأرواح، ومزقُ الأصابع والقلوب والأقدام الحافية، مزق طيور النهار، إذ فاجأ صبحها ومساءها، موت لئيم، ذات حصار، ذات اغتصاب براءة النهار، طيور مجنّحةٌ فاجأت عُري الجهات: البحرُ من أمامكم، والعدو من ورائكم، يا أهل فلسطين المشغولين باختراع الحياة، كم مرّ موت من أمامكم ومن خلفكم، ورميتم عليه سلام قلوبكم، هو خوف الغزاة من الأغنيات، ومن لا مسافة الفدائي بين أصبعه وزناد البندقية، من قلبه إذ صار صاروخاً يزمجرُ، ويصهلُ في مدى «المغتصبات»، ويشعلُ في ليلها الآن حرائقه، في وهمها، في أسفار «توراتها» لا زمن سوى من يخطوّن الآن بمعمودية الدم أفقاً جديداً…فخيار الطغاة محو الحياة، خيار الغزاة الولوغ في دم القضية.
غزة.. فلسطين: في شبهة الصمت تقاسم مع أوزار الجناة، غزة في العراء، لا تبيع ثوبها الفلسطيني لنسّاج عقيم، لا تبيع رغيفها لخبازّ أثيم، غزة ما الطريق إليك، في رابعة جرح فلسطيني الشكل والمقام، والقدس جرح شاهرٌ دمه في رعشة الصلوات، وفي نزيفِ نارنج الشرفات، وفي انكسار الضوء في وضوء الجهات!
غزة الآن، كثافة فلسطين، وفلسطين ما كثافتها، سوى الملحمة المستمرة، منذ أن خطّ التاريخ أولى حروفه، منذ كانت الجغرافيا، بيوتاً من لحم، وأعمدة من أضلاع أبنائها، منذ أن تنفسّت الأنهار، ورئتها البحار، منذ أن كان الحجر مدماك القلوب، حرفاً في أبجدية النار، اجترحه الفلسطينيون، ليظلّوا تحت شمسها –فلسطين- في وضوح لغتهم، كينونتهم الأولى، منذ تساقط الغيم فوق الأرض التي بورك حولها، ندى تلقفته أيادي الشهداء، ليمسحوا دمعة قلوب نسوة فلسطين، وليخصوا لغتها-الأرض-، منذ أن تمّ وضوء الشهيد بالدم، منذ ألف الحقب والأرض لا تكفّ عن الدوران، منذ إسراء المعنى في شرايين القضية.. كم من الوجوه، سترى غزة-فلسطين في مراياها الطليقة؟!

ذات مذبحة..
لم يدرك سوى حمام البيوت فزع الصغار، فخفق بأجنحته كلها ليُظّلهم، ولم يدرِ من أصاب الرصاص-الشظايا، همُ، أو همُ، وفي كلتا الحالتين تخضّب الريش بدموع البرتقال، وظل الليمون والسنابل في غُصصٍ مقيمة، وعلى حافة النهار، وقف يمام البيوتِ فزعاً من عواء الوحوش الطائرة، ذات حكاية فلسطينية لا تنتهي، ذات منام مستطير الشّر، صوب قلوب صغيرة في خدرِ ربيعها، وخطوه ليعلن الحياة، ولم يختنق الصوت في حشرجته منادياً على الأسماء، لحظة غفا الحلم في الدم الطهور، وبثّ من عسف الليل، نداء أرضٍ لم يلوحّها النسيان، لكأنّ الأفقَ تداعى، ومالت نرجسةُ القلب صوب حقل البيلسان، أطفال شهداء، وبضعة مسنيّن، وطيف من نساءٍ، اكتحلت عيونهنّ ذات فجرٍ مدمىّ، قبيل صلاة الفجر، أو بعدها بثوان، جاء النهار لابساً ثوب الدم، من يُنهض الآن الأغاني الفادحة الإيقاع، من يشي للذاكرة، لئن تكفّ عن «العدّ» فالمطلوب رأس فلسطين، جمعاً، فرادى وتثنّية!
لا وقتَ، للوقت إذ الوقت دم، من دم صار طُهر الأغاني الفاتحة، فلسطينُ مراياكم، لا نرجسة لقلبِ الولد، صيحة لا سواها: وا فلسطيناه، يا شهيدة، أخت الشهيد وأم الشهيد، والظّل منفطر القلب هناك: لا أحد في المدى الكحلي سواهم، في لجّة الملح والشوكِ، ودهشة النهايات، لنهاياتها، وفتنةُ رُوحٍ استطالت مدناً فوق خرابِ البيوت، ذلك البحر، دم كثيفٌ، منذ موجةٍ أولى، ولم يبحر الصيادون ذلك النهار الطويل.
ثمة كابوس على حرمة البلاد، وما عادَ للعين ماؤها، جَفّ السؤال، ما عاد طينُ الأرض يتسّع شهودَ الخارطة، الأرض لكم وأنتم ما تبقىّ لها، سرّها وملحها، الذي ملّح منذ أزل الحروف أجسادكم، والأرض لما تزلْ ظمأى، هلمّوا، لتُولم بكم خلجات ترابها، هاكم الأسماء فلتعدوا على أصابع وقتكم، هنا تلاميذ غزة، والدرس مستمّر، القلم رصاصة، ولوح الدرس متراس، والطباشيرُ الملونة، ستكتب النصر.

غزة تقاوم… فلسطين تنتصر…
مثل طير يقوم من نار موقدة، في مرايا النار هي من كانت ترتب صورة الحياة في الكتاب، في قيامتها المتجددة، غزة أسطورة النار وأسطورة الميلاد، حينما تكتبُ في الآفاق مقاومتها الممتدة، والموصولة منذ ألف عام هي الروح من تقاوم، وترتب الآن سيرتها الأخيرة، سيرة الوجه الفلسطيني الذي لا يعنيه سوى النصر، الوجه الممتد في خلايا الأرض وعروق التاريخ، تعرفه كل أسفار الكفاح، هو من يشتق الآن المعادلة الواضحة، في طلقات الصباح، وفي قيامة الروح لتنهض فلسطين، لتنهض الحياة وفي البدء كانت المقاومة، المعراج والطريق، البداية والخاتمة، الهوية والمصير، لتبقى فلسطين بكل أسمائها حاضرة على امتداد وجعٍ مازال يرسم خرائطه الأخرى، لكنه الوجع المبصر، كثافة شعب هو قام حقاً، هو قام.

وقالت دمشق:
إنها البوصلة مازالت تشير لفلسطين وهي فلسطين أم البدايات، أم النهايات، توءم سورية في مسار ومصير بحجم المستقبل، وبحجم بلادٍ لا تتسع للغرباء والعابرين، قالتها بثقة قاسيون وبتدفق ياسمين دمشق، وهي في مرايا التاريخ حاضرة كحضوره، كصيرورته حينما تظل البلاد برمزها حاضرة، أفقاً لأرضٍ ما زالت تحت الشمس حقيقةً، مازالت هي القلب النابض بالحياة، إن في المقاومة حياة.
أحمد علي هلال