سليمان العيسى وتأبى أفراس الخلود أن يترجل
في محيط دمعة غميسة بالجمر، وآهة معمّدة بالصبر تطل علينا الذكرى السنوية لشاعر القومية والبعث، سليمان العيسى الذي ترفض أفراس الخلود أن يترجل عن صهواتها، تطل الذكرى للشاعر الذي على مدى ثمانين حولاً، أتعب المنابر، وأسكر الساحات، وألهب براكين الحماسة، والحمية، والعنفوان في صدور الجماهير، وحفزها لخوض معارك الوجود القومي في فلسطين، انطلاقاً من الإيمان بأن كل شبر من الدار العربية الواسعة هو لفلسطين، ملكاً عضوضاً، وإرثاً قومياً، وأمانة شرف ونضال وكبرياء في عهدة أبناء هذه الأمة.. لقد عاش جيلنا، جيل الخمسينيات وما بعدها على صوت الحادي العروبي-أبي معن- مبشراً بالرسالة التي أمست تجليات الروح، ونشوة الحلم، وصبوة العزم الأقرب إلى القوميين العرب من رفة الهدب، وخفقة القلب، مرددين مع شاعرنا أبي معن:
(يوم أمشي في الأطلسي يميني دون حد وفي الخليج شمالي).
وفي تحديد أكثر شفافية وتوهجاً، فقد كنا نرى بعيون الرغبة والإرادة معاً:
من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر
رايات عبد الناصر
تلك الرايات التي نسجت من شرايين، وأوردة شهداء العروبة في معاركها، بدءاً من مواجهة الاستعمار التركي البغيض، ومروراً بميسلون وعظمتها، والثورة السورية الكبرى- أطرشها- وانتهاء بالجلاء الأبلج، وتأميم قناة السويس، وحرب تشرين التحريرية، أنبل أيام العروبة في القرن العشرين والتي غناها- صاحب الذكرى- بقوله:
ناداهم البرق فاجتازوه وانهمروا عند الشهيد تلاقى الله والبشر.
وإذا كان -أساطين- الدعاية والإعلام الأمريكي الصهيوني النفطي، ومازالوا يستهدفون الإرادة، والفكر، والوجدان عبر تصوير العرب بلباس الجاهلية الجهلاء، فقد رد عليهم شاعرنا-أبو معن- بالحجة الدامغة، والإقناع السديد، والبرهان الساطع، يوم أكد أن الأمة العربية توءم الحضارة، والخلود، والعبقرية، والحكمة قائلاً:
(نعم أبعد من عبس ومن مضر نعم أبعد
حمورابي وهاني بعل بعض عطائنا الأخلد
ومنّا، الناس، يعرفها الجميع، تعلموا أبجد)
ومن زيتوننا عيسى ومن صحرائنا أحمدْ).
والأمة التي تمتلك هذا الإرث الباذخ من الحضارة، والعراقة، ألا يحق لشاعرها أن يرسلها مجلجلة مدوية متحدية:
(أمة العرب لن تموت وإني أتحداك باسمها يا فناء).
ويؤكد ولا فخر:
(شمس العروبة إن تطيقي الليل بعد اليوم غيبي
البعث يصنع للدنى شمساً تضيء بلا غروب).
وفي ذكرى – أبي معن- تنفتح شبابيك الذهن على تاريخ ثري، مثقل بالرموز، والفحول، والفلاسفة، والمفكرين، والقادة الذين ألقوا بذور (البعث) في تربة الروح القومية، فكان حصادها- حزباً- استطاع، تمسكاً بأصالته، ووطنيته، وعروبته، أن يصمد في مصطرع الأعاصير، والنكبات، والقواصف، والرواجف، والمؤامرات، ويجابه أخطر حرب إرهابية كونية تستهدف الوطن بشراً، وحجراً، وتراثاً، وتاريخاً، ومؤسسات.
وليتك بيننا هذه الأيام يا- أبا معن- لتشهد رفاقك الذين طالما غنيت فأغنيت: (أطفالك السمر يا صحراء قد كبروا).
نعم كبروا جبابرة وصناديد، وفوارس ساح، وليوث غاب، يتصدون للأبالسة والذئاب من الإرهاب والتكفيريين الوهابيين الذين احتشدوا من أكثر من ثمانين بلداً للنيل من الثوابت الوطنية التي قدست فيها الشهامة النادرة، والحضارة الزاهرة، والتاريخ العروبي المتحالف مع الخلود.
أبا معن، أيها الفارس المكتنز عبقرية ونبلاً ، وعروبة لا نملك في ذكراك، ونحن تلاميذك الذين رشفوا، «علاً ونهلاً» من كأسك المترع بعطايا عبقر، وكنوز البعث، إلا أن نعاهدك أن تظل الرسالة التي حملت، والفكرة التي آمنت، والكلمة التي أبدعت غذاء أقلامنا، وهاجس أفكارنا ، ووقود عزائمنا حتى تتحقق أهداف أمتنا في القضاء على الإرهاب بمختلف افرازاته، وكوارثه، ومواصلة دعم المقاومة ممراً إجبارياً وحيداً لاستعادة السليب من الأرض والحقوق، على طريق إنجاز حلمك، حلم الملايين من شرفاء الوطن الأكبر في تحقيق الوحدة العربية، واستعادة الرسالة الخالدة رغم أنوف الذين تحديتهم طوال عمرك الطافح بمواقف الكرامة، وشجاعة المواجهة، والتحدي الجسور عبر قولك:
(الناعقون وراء الركب هل لهم أن يفسحوا الدرب للأجيال هل لهم
نحن الذين أزحنا القيد عن فمهم حتى تنفس من بعد القيود فم
هذي الدروب مشيناها على ثقة أنّا عليها ولم نندم سننحَطِم).