مفرزات خطاب التطرف والإرهاب
لا يمكن أن تكون الطروحات المذهبية والعرقية جزءاً من التسوية المأمولة إقليمياً ودولياً، فهذه الطروحات نتاج التحالف المباشر وغير المباشر الصهيوأطلسي الرجعي العربي، وهي تأتي في سياق الأعمال والأفكار الساعية إلى تقويض الهويّة الوطنيّة والمشروع القومي العربي. وكانت ولا تزال وقود الأزمة التي نسفت مرتكزات الوعي والانتماء والالتزام الوطني والعروبي التي تأصلت بعد حركة التحرّر والاستقلال العربي.
وفي الواقع، فقد صار خطاب التطرف ظاهرة مستقرة في الفكر وفي المجتمع العربي لايمكن نكرانها أضرمت نيرانها ثلّة من مثقفي البترودولار وأعلامه المأجورين الذين أجهزوا على منجزات حركة النهضة واليقظة العربية التي نشطت على أيدي أعلام كبار في المشرق والمغرب من أمثال عبد الكريم الخطابي وعلال الفاسي وعبد الحميد بن باديس وخير الدين التونسي وعبد العزيز الثعالبي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي والحصري وقسطنطين زريق، ليأتي بعد هؤلاء الأعلام الأثر الاستعماري الغربي ولاسيّما البريطاني في الفكر والمجتمعات العربية الإسلامية من محمد بن عبدالوهاب في السعودية إلى أبي الأعلى المودودي في الهند ومعهما فكرة الحاكمية في الإسلام وما استتبعها من تطرّف بعد نشاط حركة الإخوان المسلمين وتشظيها.
وإذا كان خطاب التطرف ذا مرتكزات داخلية تم تغذيتها من مراكز الأبحاث والاستخبارات الغربية، فإن خطاب الإرهاب ظاهرة وليدة عن السابق، ومرتكزاته خارجية بريطانية صهيونية وهّابية، ولا شكّ أنها شهدت تحولاً ودفعاً جديداً من المجتمع الدولي والمركزية الغربية إثر الازدواجية في التعامل مع الإرهاب خطاباً وممارسة، هذا مايظهر من تباين الرأي الغربي والرجعي العربي تجاهه في سورية والعراق ولبنان ومصر، فقد عاد الحريري إلى لبنان مع دخول «داعش» إليه ومعه مليار دولار سعودي، وهذا مايذكّر بموقف السعودية من مرسي وحماس بعد أن أحسّت أنها صارت في مرمى التنظيم حين فوجئت بارتفاع مستوى التعاطف السعودي الكترونياً معه بعد تقدمه في العراق. كما يذكّر هذا بالموقف الحرج الذي كابده أوباما في حواره الأسبوع الماضي حول هذا الموضوع مع توماس فريدمان إزاء المطالبة بتنفيذ سياسة إقليمية موحّدة ضد التطرف والإرهاب.
وفي الواقع والفكر فقد صارت مفرزات خطاب التطرف والإرهاب ظاهرة واضحة بنتائج ملموسة منها: السلوك الهمجي والوحشي التدميري الواضح للبشر والحجر – انهيار المجتمع المدني العربي – اقتران سقوط الأنظمة السياسية بسقوط الدولة الوطنية – غياب دولة القانون والمؤسسات التقليدية التي استقرت قرابة قرن من الزمن – تقدّم الاعتبارات المذهبية والعرقية – رفض الآخر ورفض الحق في الاختلاف.
هذه المفرزات لا شكّ إذا لم يتم التصدي لها ستؤدي إلى احتضار المجتمعات الوطنية والعروبية الحديثة والمعاصرة، وواضح ماهو البديل، ولاسيّما إذا أخذنا بالحسبان أنَّ هذه المجتمعات غاب عنها مع الألفية الثالثة التأصيل الفكري، خاصة النظري التنويري، على غرار ماحدث منذ أكثر من قرن ليحلّ محلّه إحياء جديد للحاكمية الإسلامية الظلامية التي نتجت عن الدعم البريطاني لقيام الدولة السعودية الوهابية بعد اتفاق الشيخ محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود عام 1744 على تقاسم مستمر للسلطة بين الشيخ والأمير، وحين حدث خلل في التحالف في الدولة السعودية الثانية ذكّر حفيد الشيخ حفيد الأمير متوعّداً بأنَّ «أهل الإسلام ماصالوا على من عاداهم إلاّ بسيف النبوّة»… لذلك ابن سعود اليوم قلق، بل قلق جداً، وهو يرى تطور الوهابية نظرياً وممارسة يأتي من خارج مملكته حيث تُدرّس مؤلفات ابن عبد الوهاب الآن في مناطق سيطرة داعش.. وهنا انتفضت أمريكا ورجالاتها في المنطقة للتدخل والمؤازرة.
إذن لا يمكن أن يضرب التحالف الصهيوأطلسي الرجعي العربي مفرزات هذا الخطاب إلاّ براغماتياً وبازدواجية، لأنّه مستفيد منه ويراهن عليه في جغرافيا سياسية جديدة للمنطقة تنطلق من شرق أوسط جديد، ومن تغيير ناتج عن الفوضـى البنّاءة.
هنا يبرز الرهان التاريخي والجيوسياسي على دور المنظّمات والاتحادات والأحزاب الوطنية والقومية، هذا الدور وإن ضعف مؤخراً إلا أنَّ قوته وجماهيريته ومرتكزاته لاتزال كامنة وقادرة على تجديد العمل والأمل وتحقيق الانتصار، فلم، ولن تندحر تاريخياً قوى الصمود والمقاومة بأصالتها وبمشروعيتها وبشرعيتها، وهي القادرة وحدها على رسم ملامح الفعل التاريخي، والجغرافي أيضاً.
د. عبد اللطيف عمران