ثقافة

يرحل بقامته المنتصبة وهامته المرفوعة

لم يحتمل قلب الشاعر العربي الفلسطيني سميح القاسم غياب صديقه وصنوه الأدبي الشاعر محمود درويش أكثر من سبع سنوات، فلحق به تاركا شعره للأبدية، فيما تلاشى الجسد المؤقت بعد صراع غير متكافئ مع الروح الفياضة التي تحررت من قيود الجسد الفاني سعيا منها للخلود.
صاحب (منتصب القامة أمشي…) أطلق العنان لقصائده لتعيش حياتها حاملة الهم الفلسطيني الذي جسدته لأكثر من نصف قرن وهي تصرخ (تقدموا…تقدموا…)  غير عابئة بألاعيب السياسة وفنونها..همها (القصائد) الحفاظ على روح الرفض والمقاومة لكل ما يسحق الإنسان وكرامته …حيث يستخدم في قصيدته كل الموروث التاريخي الذي يحتفي بالإنسان الذي لا يرضخ للذل …يقول القاسم:
(…فاعتصم بالله يا ابن محمد/ واصعد سلالمك الكثيرة/ في معاريج الأعالي/ وارفع قميصك راية خفاقة بالدم/ واصعد بالصليب ظلام دربك…
يقول احد النقاد: إن شعر القاسم  يتوازى في مسيرته مع تطور الشعر العربي في أشكاله وأنساقه، وفي كونه مرآة للقضايا الفكرية الكبرى منذ أكثر من نصف قرن من الزمن على الصعيدين المحلي والعربي والعالمي. ويتابع الناقد: لم ينتظر القاسم كثيرا للانتقال من القصيدة العمودية نحو قصيدة التفعيلة، حيث كانت النقلة الأولى في ديوانه (أغاني الدروب) (1964) في وقت مبكر جدا من رحلته الشعرية. إن هذا الانتقال السريع مؤشر على رغبته بالتجديد وإعلان التغيير عن وعي وتصميم، غير آبه بالمعارك الحامية بين مناصري الحداثة الأدبية والشعرية وأتباع القصيدة التقليدية بوصفها قالبا مقدسا.. لم يتوقف القاسم وكتب الشعر العمودي، إلى جانب قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، ورأيناه يمزج بين جميع هذه الأشكال، في بعض الأحيان، استجابة لمتطلبات الموقف والحالة الشعرية.
في قصيدة القاسم ما يدعو قارئها للاندهاش والانفعال، من خلال التوظيف المكثف للأساطير الشرقية والغربية والرموز العالمية:
(…فاعبر على تموز في عجل ولا تمكث عند جلجامش/ ولا تعبأ بلعبة فاوست أنت الآن بين رؤاك/ بين رؤاك أنت الآن….)
لذلك هو متعب للقارئ العادي انه يطلب منه أن يكون على دراية معرفية بالتراث الإنساني والديني وعلى اطلاع كاف بالأساطير ففي مجموعته الشعرية (كولاج2) هناك استخدام للمفاهيم الفلسفية والوجودية والتأمل في الحياة وفي مصير الإنسان:
أيـــن تفاحتــــــــــــــي وكأس نبيذي             وكفافي من خبز حزني اللذيذ
أين ناري وشـمعتـي وورودي                 وصــــــــــلاة الوداع والتعويذ
للرحيل الأخير قد هيأت نفسي            ولدى الله ساعـــــــــة التنفيذ
في دواوينه الأخيرة غيّر القاسم كثيرا من نمط كتاباته ومال نحو الذاتية بعد أن كرس في العديد من كتبه الأولى الأسلوب الحماسي المقاتل والمتحدي. تتنوع مضامين شعر القاسم فهو متعدد الرؤى حيث نرى في قصائده الشعر الخطابي وشعر الحماسة وشعر الحلم والرؤيا، وفيه من الذاتي والعام والخاص، كما انه كتب الشعر المباشر السياسي بصيغة تهكمية ساخرا من الوضع العربي والنفاق الممارس بحق القضية الفلسطينية:
(أين أنتم.. يا ذوي القامات المسحوقة كالتبن/ تحت مسامير الأحذية العسكرية الثقيلة؟
وأين أنتم يا شيوخ القبيلة وعلية القوم؟/ يا من تصطف خواتم الذهب والماس فوق أظافركم القذرة/ أيها الملوك والرؤساء/ يا مماليك سايكس- بيكو/ أبنوا فلسطين في مؤتمرات قمتكم…..)
ويرى القاسم أننا كأمة مازلنا بعيدين كل البعد عن الحضارة والحداثة إن كان تقنيا أو فكريا وثقافيا، فهاهو يقول في حوار معه: (…هناك فرق بين استهلاك الحداثة وبين الاستحداث، والحداثة تنبع من الداخل وهي ابنة العصر. في هذا الصدد أنا ازعم أن الأغلبية الساحقة من أفراد أمتي ما زالت تراوح في حدود القرن الرابع عشر ووعي القرن الرابع عشر وأخلاقيات القرن الرابع عشر وأيضا هواجس القرن الرابع عشر….)، ويتساءل القاسم بمرارة: (كيف تكون كاتبا ما بعد حداثي في مجتمع يراوح في ثقافة الإقطاع…….)
ففي قصيدة بعنوان (التعاويذ المضادة للطائرات) يؤكد القاسم على رفضه لثقافة القبيلة التي تسببت بكل هزائمنا إن كان على الصعيد الوطني أو التنموي أو الاقتصادي والثقافي ويكتب غاضبا بأسلوب خطابي مباشر يخفف من الشعرية بشكل أقرب للبيان السياسي:
يا أبي المهزوم… يا أمي الذليلة/ إنني أقذف للشيطان، ما أورثتماني/ من تعاليم القبيلة/ إنني أرفضها تلك الطقوس الهمجية/ إنني أجتثها من جذرها/تلك المراسيم الغبية.
إنني أصرخ من قعر جحيمي:
يا وحولًا لصقت في نعل تاريخي العظيم/ إنني أحكم بالموت عليك/ فأعدي كفنًا من جلد أنصاف الرجال/ وإذا شئت نقوشًا، وصليبًا، ونجومًا، وهلال/ووصايا وابتهال/طرّزيها بيديك!
حين مات صديقه محمود درويش رثاه بقصيدة (خذني معك) لكن درويش تريث حوالي سبع سنين لقبول طلب القاسم والسماح له بمرافقته إلى الدار الآخرة:
تَخلَّيتَ عن وِزرِ حُزني/ ووزرِ حياتي/وحَمَّلتَني وزرَ مَوتِكَ/أنتَ تركْتَ الحصانَ وَحيداً.. لماذا/وآثَرْتَ صَهوةَ مَوتِكَ أُفقاً/ وآثَرتَ حُزني مَلاذا/أجبني. أجبني.. لماذا؟
أحمد خليل