اقتصاد

الحماية الاجتماعية من المراوحة إلى التراجع والأولوية في حالتنا حالياً.. الانتقال من درء المخاطر إلى تعزيز القدرات عبر مفهوم للحماية يتجاوز طرح المنظمات الدولية ويستوعب الحالة الاستثنائية

رغم علاقتها بالتنمية بمفهومها الواسع لا تزال النظرة إلى توفير مظلة للحماية الاجتماعية في سورية معوقاً وعبئاً مالياً كبيراً، علماً أن الوجه الآخر لهذه المتطلبات يحمل وفراً هائلاً، وربحاً أكبر يمكن وصفه بالاستثمار الآجل بمختلف المجالات خاصة في الموارد البشرية.
وفي وضعنا الراهن وبدل التركيز على هذه المظلة كمحرك أساس للحياة الاقتصادية، تقلصت وانحسرت إلى حدود انقلبت فيها من حماية ورعاية للأسر إلى استنزاف لمواردهم، خاصة لجهة فرص العمل والصحة وأيضاً التعليم، وبدل أن يتم تعزيز الإنفاق وزيادته في هذه المجالات أصابها “ضغط الإنفاق “، وعوملت كأي مشروع أو شراكة لتتراجع إلى حدود متأخرة مع أنها كانت بالأصل غير كافية قبل الأزمة.

انحدار
فالحماية الاجتماعية لم تكتسب صفة المراوحة في المكان بل التراجع وإن كان هذا التراجع في بعض جوانبه ناتجاً عن ارتدادات الأزمة، بسبب خسارة سورية ثلاثة أضعاف الناتج المحلي عن العام 2010، كما أنها أصبحت من آخر عشر دول في العالم بالالتحاق المدرسي ونسب الفقر والبطالة وفق الباحث في المركز السوري لبحوث السياسات ربيع نصر، الذي بين أن تصنيفنا يأتي في المراتب الدنيا من حيث توفير فرص العمل اللائقة مع عدم وجود ضمانات صحية وغيرها من أنواع الضمان، حيث لم نتمكن منذ العام 2000 إلى العام 2010 إلا من تشغيل 200 ألف فرصة عمل وهو رقم ضئيل جداً، وقد أصبح أقل بكثير خلال الأزمة، مع وجود آليات طاردة للمرأة من سوق العمل، ومن تأثيرات الأزمة الراهنة على أنظمة الحماية الاجتماعية، فقدان الأمن الإنساني وفقدان مقومات السكن المناسب، وتدهور الخدمات الصحية والتعليمية وتراجع إمكانيات شبكات الأمان الأهلية والأسرية إضافة إلى فقدان كبير في فرص العمل ومصادر الرزق..
أيضا تقرير التنمية البشرية 2014 الصادر عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة يبين أن سورية جاءت بالمرتبة 118 في مؤشر التنمية البشرية من أصل 168 دولة، إذ إن البشر يتعرضون إلى مخاطر عديدة بسبب الكوارث الطبيعية أو الصدمات الاقتصادية التي قد تؤدي إلى البطالة، وكذلك التعرض للصدمات الصحية التي يمكن أن تؤدي إلى انخفاض دخل الأسرة وارتفاع المصاريف الطبية وغيرها.

استدراك
ككل القطاعات والمجالات أصاب مكونات الحماية الاجتماعية صدمات لا يستهان بها، لكن القدرة على التجاوب مع هذه الصدمات هي التي تعري التقصير، وهذا التقصير في هذا المجال كان حضوره قوياً، يقول الباحث نصر..إن العمود الفقري لنظام الحماية الاجتماعية في سورية هو الدعم والخدمات الصحية العامة وخدمات الرعاية الاجتماعية من مشاف ومراكز صحية والتعليم المجاني ودعم المواد الأساسية وغيرها، وكان قائماً عندما كان هناك وفرة في الموارد وفائض منها، خاصة مع وجود دخل نفطي يلبي الاحتياجات، ولكن تراجعت الايرادات خلال الأزمة، لم يتبق أي دعم لهذه البنية التحتية، حيث تعرض الإنفاق خلال السنوات الماضية لتراجع حاد في قطاع الإنفاق الاستثماري والتجاري والإنفاق العام بسبب تراجع الفائض والإيرادات، ما انعكس سلباً على جهة المستفيدين من خدمات الرعاية الاجتماعية.
ويضيف.. كان لعملية تحرير الأسعار على مراحل في السنوات الماضية وخصوصاً خلال الأزمة الأثر الأكبر في نزول فئات جديدة من المجتمع إلى تحت خط الفقر، علماً أن الصحة والتعليم المجاني والخدمات الاجتماعية الشاملة تعتبر مهمة جداً للدولة النامية خاصة المنكوبة في حالات الحروب والأزمة، ولا يجوز أبداً التفكير بتغيير نظام الحماية الاجتماعية.

تثقيل
لا يمكن تبرئة القطاع الخاص من “تردي” نظام الحماية الاجتماعية، كونه سبباً رئيساً في ذلك خاصة لجهة الالتفاف على التشريعات الخاصة بذلك، ورغم أن الكثير من النشاطات التجارية والإنتاجية المقوننة خرجت من الخدمة خلال الأزمة، إلا أن معظمها تهرب من مسؤولياته الاجتماعية وسرح العمال وتركها عبئاً على الدولة، أما القطاع غير المنظم والذي يشكل نسبة كبيرة من حجم الاقتصاد كان ولايزال “وبالاً” حقيقياً سواء من ناحية الأمان والرعاية لعماله، أو من ناحية التهرب الضريبي والتحصيل الذي يمكن أن يعود على نظام الحماية الاجتماعية.
فهناك إشكالية في توفير الموارد المالية اللازمة لتغطية أوجه الحماية الاجتماعية- حسب الباحث الاقتصادي نبيل مرزوق- إذ إن تحديات أنظمة الحماية الاجتماعية في سورية تتمثل بغياب رؤية متكاملة لها، وعدم الترابط بين مكوناتها، والتركيز على دور الدولة وتجاهل دور مؤسسات المجتمع المدني، أيضا هناك غلبة لثقافة الإعالة والإحسان في العمل المدني والأهلي، وقصور عملية المساءلة والرقابة الداخلية للجمعيات من قبل أعضائها، وضعف الدور التشاركي للقطاع الخاص وتهرب جزء كبير منه من دوره الاجتماعي في الاستثمار برأس المال الاجتماعي والبشري والثقافي وعجز مؤسسة السوق عن الارتقاء بإنتاجية القطاع.
ويشير إلى أن الطروحات الاقتصادية قبل الأزمة كانت غير واضحة، وتحولت الخيارات الحكومية في تأمين الموارد إلى تحصيل الضرائب غير المباشرة عوضاً عن الضرائب المباشرة، بما يعني عدالة أقل وعدم مراعاة للفئات الشعبية المحتاجة للحماية الاجتماعية.

أولوية
تغيير النظرة للحماية من معيق للتنمية إلى معزز للنمو والإنتاجية ومقلص للتفاوت في التوزيع يحتاج وفق الباحثين “إلى وضع نظام للحماية الإنسانية وفق رؤية تنموية واضحة، وحزمة متكاملة من التشريعات، ونظام مالي تكافلي بين الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني”. مع التأكيد على أن الفكرة الرئيسية من نظام الحماية الاجتماعية في وضع بلدنا الحالي هو أهمية العمل على الانتقال من درء المخاطر إلى تعزيز القدرات، من خلال تقديم مفهوم للحماية يتجاوز طرح المنظمات الدولية، ويستوعب الحالة الاستثنائية للأزمة، وذلك مع العمل على تقييم أولي لآثار الأزمة في نظام الحماية الاجتماعية، وسمات النظام الحالي المتشكل خلالها، والتضرر الحاد الذي لحق بمعظم فئات المجتمع السوري من حيث سلامتهم الشخصية، ومصادر الدخل والممتلكات والخدمات العامة وظروف المعيشة والنزوح والهجرة، إضافة إلى دور الفاعلين في مجال الحماية الاجتماعية، بهدف تقديم مقترحات حول رؤية جديدة للحماية الاجتماعية تأخذ بالحسبان علاقة الحماية الاجتماعية بالنمط التنموي السوري المستقبلي.
ومع الشروع بمراحل إعادة الإعمار يجب أن “تنبض” الخطط الموضوعة “بشرايين ” حماية أكثر قوة وأن يسبق بناء الإنسان الكتل الإسمنتية.
دمشق- سامية يوسف