في عرضه المسرحي الجديد “إكليل الدم” زيناتي قدسية يعرّي المجتمعات العربية التي دعمت الإرهاب
يعكف الفنان زيناتي قدسية، صاحب رأس الغول الذي أسس المسرح التجريبي، على إنجاز التحضيرات النهائية للعرض المسرحي الجديد “إكليل الدم” الذي سيدرج ضمن أعمال المسرح القومي– وزارة الثقافة- ويتوج مسيرته الفنية الهادفة التي تناولت مأساة الشعب الفلسطيني، وحملت مشاهده الكثير من المضامين الإنسانية، والمفاجأة أن هذا العرض سيكون أبعد في مضمونه عن أعماله السابقة، إذ يتطرق فيه إلى المحيط العام، إلى واقع الممالك والإمارات التي دعمت الإرهاب، وساهمت في عمليات التخريب في سورية، ويبتعد فيه عن التفاصيل الجزئية، لنجد أنفسنا إزاء مسرحية داخل أخرى، ونلمح بأسلوب غير مباشر من خلال صياغة مشاهد العنف الذي نعيشه، ويتسم إكليل الدم بغرائبية واضحة تظهر جلية في سيكولوجية الشخوص، خاصة الأعمى، والأبكم، وضمن مفاصل السينوغرافيا.
البعث زارت مسرح (الحمراء) أثناء التحضيرات النهائية للعرض الذي من المتوقع أن يبدأ في مطلع الشهر القادم، وتحدثت مع كاتب العمل ومخرجه زيناتي قدسية الذي أشاد بداية بدور الإعلام السوري الذي أرّخ بمصداقية ليوميات الأزمة، وبجريدة البعث بشكل خاص التي تعدّ وسيلة إعلامية متميزة تهتم بمجمل القضايا الهامة، ثم بدأ حديثه عن خصوصية العنوان الصادم للوهلة الأولى، والذي يثير في ذات المتلقي جملة من الأسئلة، والاستفسارات فقال: المضمون العام للعمل لا يجسد تجسيداً حرفياً معنى العنوان، لأنه مبني على التنوع، ويعرّي واقع المجتمعات العربية، ويعرض في ساحاته الكثير من الإشارات والرموز التي تومئ بحيثيات القضايا الاجتماعية التي تتغلغل في مسار تلك المجتمعات، ومن ناحية أخرى فهو يشبه عروضنا المسرحية السابقة، حتى عروضنا التلفزيونية، والسينمائية التي نهضت من أرضية الأزمة، إلا أنه بعيد عن المباشرة، وعن اللغة الواقعية التي تمضي بها الأعمال الدرامية التلفزيونية، لأن المسرح فضاء مختلف، وإن قُدمت بعض الأعمال المسرحية التي حاكت تفاصيل الأزمة مباشرة من خلال نصوص لا تحمل تنويعات كثيرة، تغرق بحالة تصادمية مثل عرض نبض الذي صوّر معاناة ثلاث نساء تحدثن عن أبنائهن الشهداء.. في “إكليل الدم” نقدم الكثير من المعاناة والقسوة، ولكن ضمن خط متداخل مع خط أكبر، ونخضع العمل برمته لجمالية مختلفة، فهو بعيد عن أنظمة العروض التقليدية المتعارف عليها.
ثم تابع حديثه عن المحور الأساسي للعمل، والحامل الدرامي له المتجسد في مكان افتراضي لمجموعة مواطنين جاؤوا من مجتمعات عدة، فيضيف: تدور المشاهد بين حواراتهم التي يحللون من تداخلاتها واقع بلادهم الاجتماعي، وأنظمة حكمهم، وكيف ينظرون إلى واقعهم، وفي الوقت ذاته إلى واقع الدول التي تتعرض للإرهاب، وعلى رأسها سورية، ويمتد إلى العراق، وليبيا، ولبنان، وصولاً إلى رأيهم بموقف الشعب السوري الذي يشبه طائر الفينيق، ويقاوم أعتى أساليب الهمجية، وأبشع أساليب القتل والتخريب، بمعنى آخر يمضي العرض بمنحيين متداخلين بين البعد الأوسع لهؤلاء الذين أرادوا أن ينؤوا بأنفسهم عن واقع بلدهم، لأنهم لم يستطيعوا أن يغيّروا شيئاً، وفي الوقت ذاته يتابعون بدقة ما يجري في بلدنا، والمفارقة أن بلادهم لها ضلع في الإرهاب الذي يخرّب بلدنا، وحكام بلادهم تظاهروا بعدم الانتباه إلى ذاك الخطر المحدق بنا، فالعمل محمّل برسائل صريحة تنبه العرب، وتقول لهم: استيقظوا من سباتكم، استيقظوا من غفوتكم، قفوا في وجه من يقطع رؤوسنا، ويقتل أكبادنا، وإذا لم تفعلوا شيئاً لإيقاف هذا الطاعون، فسيتفشى ويصل إليكم، وحينها لن ينفع الندم.
ومن الحديث عن المضمون انتقلنا إلى السينوغرافيا، فسألته عن الملاءمة بين المضمون والسينوغرافيا فأجاب: توجد إشكالية بين الشكل والمضمون، فلابد أن يتواءَما لخدمة العمل، وبرأيي أن النص هو الذي يحدد شكله، وجوهره يحدد هويته البصرية، والطاقات الانفعالية، والفكرية التي يحملها ترفض شكلاً مغايراً لها، وعرضنا يتسم بغرائبية السينوغرافيا – كما تقولين- وذلك لخدمة النص، لأن النص هو الذي يفجر طاقات تعبيرية تمضي باتجاه تصنيع العرض، في النهاية لكل مخرج رؤيته الإخراجية، وسيرى الجمهور أن سينوغرافيا إكليل الدم محمّلة بكثير من المفردات المعبّرة عن واقعنا العام السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي.
وتطرقنا إلى تفاصيل العمل من خلال حديثنا مع المخرج المساعد والدراماتورج سهير برهوم فقالت: سنشاهد في إكليل الدم كل شيء غير مألوف وخارج عن المتعارف عليه أسوة بما يحدث في سورية الآن، وسيرى الجمهور أسلوباً جديداً من حيث صياغة المشاهد التي فيها سمات الغروتسك، أما عن الرموز الغامضة التي تملأ خشبة المسرح مثل الأشجار الميتة، والجرار المتكسرة، والأزياء البالية، والدواليب، فهذه كلها رموز لأولئك الأشخاص الذين اجتمعوا في عالم افتراضي رسموه كما أرادوا، ومجمل مفردات وأدوات السينوغرافيا تشير إلى حالة الضياع، والتشتت، والانعزالية التي يعيشها أبطال العمل، حتى أصبحوا خارج نطاق الحياة، ووصلوا إلى نقطة الصفر، فهم أشبه بكثير من الأشخاص الذين وقفوا بعيداً عن مجريات الأزمة التي نعيشها، وظنوا أن البعد، والنأي بالنفس موقف، واعتبروا أنفسهم منعزلين، متناسين أن ما يفعلونه ليس موقفاً، وأن الصورة واضحة تماماً.
في منحى آخر ميزة العمل أننا لم نعتد أن نقدم نقداً عربياً، ونتوجه بنقدنا نحو الإطار المحلي، والمرحلة التي يمرّ بها بلدنا تتطلب أن نتعرض للوضع العربي، والدول التي دعمت الإرهاب، والأحداث المباشرة تدور ضمن مملكة تشبه واقع الممالك والإمارات التي لا تحكمها قوانين، وإنما تخيم عليها السطوة، ويسودها القمع والتعسف، وهذا ما سيترجمه أحد الأبطال الأبكم الذي قطعوا لسانه لأنه ردد قصيدة شعر تصف قسوة ما يفعله الإرهابيون في سورية، وسنقدم في رؤية خاصة مسرحاً داخل مسرح لكشف حقيقة ما وتوضيحها، وتبقى الشخوص بحالة تأملات ذاتية ليتمرد الأبكم ويلحق بالضرير الذي تحكم شخصيته تفاصيل معينة، ويجسدها الفنان قدسية، ثم سألتها عن خصوصية الإضاءة والموسيقا، لاسيما أن العمل تتخلله بعض الرقصات التعبيرية فتابعت : المسرح جملة من عناصر متضافرة جميعها تواكب رؤية المخرج، لذلك جاءت الموسيقا على شكل توليفة متقطعة لا تمثل وحدة متكاملة مترابطة، وكذلك الإضاءة، والمثير أن إحدى الرقصات التعبيرية (فتاة الخيال) تترجم الواقع الحالي غير الموجود سابقاً في سورية بخروجها عن المألوف، إذ تجسد الراقصة حركات تعبيرية معاصرة على موسيقا (القلب يعشق كل جميل)، عكس حركات الرقص الشرقي، كما تتخلل العرض رقصة هندية في مشهد الملك الذي يحتفل بتنصيب ابنه الرضيع، ولي العهد، إيماءة إلى الواقع الذي يحكم تلك الممالك، ومن المتوقع أن يشكّل عرض إكليل الدم حالة متطورة لعالم المسرح السوري، تعكس الواقع العربي بكل جرأة ومصداقية، وتدل على براعة قدسية في تناول القضايا الجادة.
بطاقة العمل:
الكاتب والمخرج: زيناتي قدسية.
المخرج المساعد والدراماتورج: سهير برهوم.
الديكور: زهير العربي.
الإضاءة: بسام حميدي.
الأزياء: هشام عرابي.
الموسيقا: قصي قدسية.
تصميم الرقصات: جمال تركماني.
مكياج: ريمة عرابي.
تصوير فوتوغراف: يوسف بدوي.
الممثلون: زيناتي قدسية- قصي قدسية- أسامة تيناوي- رائد مشرف- أسامة جنيد- خلدون قاروط- فادي الحموي- زهير البقاعي- سامر الجندي- جمال التركماني- مروى العيد.
مِلده شويكاني