ثقافة

نزار غانم بين… غزل القومية العربية وخبزها المر

لابد قبل البدء  من استهلال أو سؤال يسبق التسمية والإيحاء ليخلق المعقول من اللامعقول رغم تحذير رائد الرمزية الشاعر الفرنسي مالارميه: «التسمية تدمير والإيحاء خلق»…أيُّ خلق..؟هل يستطيع الإنسان أن يحدد هويته الإنسانية دون أن يكون للغيب وجود في صياغة هذه الهوية؟ تنهض كتابة “نزار غانم” من مزمور القومية العربية، وصوتها  الوحدوي المخنوق يعزف نغم العلاقة بين العروبة والإسلام للمقهور، والسلوى للذين بحاجة ماسّة لتناول خبزها المر. كثيرًا ما غمِزَ أي كاتب بالقضايا الإسلاميَّة بأنَّه فكر انتهت صلاحيته، ويجب أن تنحصر مُهمَّتُه في الدَّعوة إلى الله، والوعظ والإرشاد، وهو بذلكَ خارجٌ عن حقيقة الفن الأدبي وخاصة الشِّعر التي تدغدغ الوجدان، وتُخَاطب المَخْبوء في النَّفس البَشريَّة، وتُعَبِّر عما لا تستطيع المَحْسوسات أن تَسْتَجْلِيَ حقيقته، وتكتشف أسراره؛ لِمَا انْطَوَتْ عليه مِن مُلاَمَسَة الخيال، وتَحْريك العَوَاطف. إن تغريب الإسلام عن عروبته التي لُفَّ بها منذ فجره وعن جوهره العربي واستمداده قوته من العرب شعباً والعروبة قوميّة لهو مؤامرة خسيسة خطّها الغرب في القرنين الماضيين والذي تبلورت خلالهما قوميته الاستعمارية وقرينته الاستغلالية وخلفيته العنصرية زارعاً بيننا نحن العرب المسلمين من يثير الضغائن والفتن مبذراً بيننا من يحاول فصل الجوهر الإسلامي عن عروبته القدسية المستمدة من الذات الربانية والمستوحاة من الأصول العربية… هل على العرب أن يمشوا على خطا تولستوي كي يبصروا حقيقة المعنى المتخفي خلف سواد الحبر الأعظم من خلال قوله: ينبغي للإنسان ألاّ يكتب إلاّ إذا تـرك بضعة من لحمه في الدواة كلّما غمس فيها القلم..؟” هل يمكن لهذه الأمة العربية والإسلاميّة أن تطرح لنا أجيالا قادرة على مقاربة جوهر مشاكلها بعيداً عن ثقافة السيف وسياسة إلغاء الآخر؟ رغم أن الكاتب لا يؤمن باللحظات المسروقة تمثل تجربته الأدبية نقلة نوعية في دراسة القومية العربية بطريقة السرد الممتع والسهل الممتنع، إذ يؤمن  كما يؤمن القوميون العرب بالعروبة كعقيدة ناتجة عن تراث مشترك من اللغة والثقافة والتاريخ إضافة إلى مبدأ حرية الأديان، ونراه يؤسس لعلاقة عربية سورية متميزة عــــــبر نتاجه الشعري والقصصي والتي نخص منها:
/امرأة تعرف الحب/ دعوة خاصة جداً/ حزن لا دواء له /أسكن خلاياكِ/القومية العربية والعلاقة بين العروبة والإسلام/.
تُعتبر دراسة “القومية العربية” لنزار غانم مـــرحلة جد متقدمة في نضج رؤيته القومية وتبني خطاب الشمولية والاستمرارية في بعث الأسس الجديدة للعلاقة العتيقة المعاصرة على ركائز ودعامات قوية تمتح من تجـــدد المواقف لدى الأديب وخلق بدائل جـديدة لـفهم أزمة العالم العربي الإسلامي وفكر الإنسان العربي السوري.ينطلق “غانم”  عبر “دعوة خاصة جداً” ومن حزن لا دواء له “وفي حضرة امرأة تعرف الحب” الانطلاق في الوجود مرفرفاً جناحيه واضعاً نصب عينيه، هذه المَلَكة العربية وباحثاً عن حقيقة  هويته القوميّة العربية والعلاقة بين العروبة والإسلام، بفكر عاشق محب  يستند إلى الواقع والمعاصرة، وبجدلية وموضوعية تعتمدان على معطيات استقرائية واستنتاجات منطقية، بعيدا عن أي توثن أو معتقدية متزمتة أو موقف تبريري، فيحرّك المفاصل المعطلة في جسدِ هذا الواقع، ويضفي عليهِ  جمالاً، وهو يمغنطهُ بحرارةِ نبضه القومي والإنساني.
بدراسة متآلفة تارة ومتراكبة متنافرة تارة أخرى “القومية العربية” دراسة أو مشروع الحوار العربي بيـــــن المشرق والمغرب ورواد القومية العربية في الوطن العربي من خلا ل استحضار أعلام القومية العربية كالرئيس الخالد حافظ الأسد بقوله: “العروبة هي الجسد والإسلام هو الرُّوح”..و كجمال عبد الناصر عندما ارتفع صوته: “إن شعلة القوميَّة العربية ستبقى أبد الدَّهر عالية مرتفعة لأنها لا تنحصر في شخص واحد ولا في أفراد.. ولكنها تمثل الشَّعب العربي..ويحقق أسلوبه، ومخزونه المعرفي المتراكم إثبات الوقائع وربطها بالأسباب ووصف الظواهر العربية المؤلمة وتعليلها والبحث عن بواعثها الخفية والظاهرة القريبة والبعيدة، واستخلاص العلاقات التفاعلية بينها وبين النكسات الماضية.
كما تزخر دراسته للقومية العربية عبر مجاميعه الشعرية والقصصية والفكرية بكل تمـفصلات الجسد العربي في أبعاده الفلسفية والتاريخية والإجتماعية والإيروسية لتصبح الرؤيا للعالم العربي والإسلامي في اللحظات الهاربة من التاريخ الكوني مفسرة لكل التيمات المسكوت عــنها من خلال علاقة الذات بالآخر وعلاقة الإنسان بالطبـــيعة وعلاقـــــة اللغة بالـفكر السوري والإسلامي المعاصر.قائلاً: “مايحدث الآن في سورية هو لحظة هاربةٌ من التاريخ وستعود هذه اللحظة إلى مسارها الطبيعي قريباً وبحكم التاريخ” .. ص-12 القومية العربية
ونتاجه الفكري والشعري ومنذ العتبات الأولى يفتح توهجه الشعري عــلى ايقاعات الحزن الكامنة في الذكريات والصور والإسترجاعات واستحضار كل المحـطات الإنسانية المحسوس منها والمجرد، الواقعي والإستيهامي.
لذلك سعت هـذه القراءة المتواضعة لنتاج الأديب “نزار غانم” إلى رصد معالم شعرية حزينة ورؤية قاتمة في فكرنا العربي الإسلامي المعاصر، من خلال تمفـصلات الوجع والهزيمة كرؤية وكفن وكحـضارة وكفلسفة وكـتوجه لا كتناه أبعاد هـذا الحزن وتفاصيله الكبرى والصغرى، وتبيان مطارحاته الميثولوجية والسوسيولوجية. تلتقي أنّات الضعفاء في القص مع الشعر..”بدعوة خاصّة جداً”  ويعترف:”جسدتُ في هذا الكتاب، بعضاً من تجارب الحياة، وعلاقتها بالممارسة الديمقراطية بشكلٍ عام” ص-9.. في تحويل خطاب الجسد الى مصطلح” جسدنة، لكنه يستعير صوت (صمويل بيكت)معترفاً: “لا صوت لي.. وعليَّ أن أتكلم  هذا كل ما أعرفه”_ص 5 قائلاً: جسدت في هذا الكتاب بعضاً من تجارب الحياة، وعلاقتها بالممارسة الديمقراطية بشكلٍ عام.” ص-9 و يتماهى الكاتب مع أنّات الشهداء في كل مكان، ويسبح في العتمة حيث الظلام والدياجير، يحاول النسيان، لكنه يتخبط في عشوائية الظلام والرؤية مستحيلة والتمويه والتضليل الإعلامي حاضر، والغرق مسترسل، لكل أيد تطلب الخروج من اللجة الى سطح الماء حيث الحياة والهواء. إلى أن تتدخل عدالة السماء ص-63  ويخرجه  اللون الأحمر القاني من المعقول إلى اللا معقول. ويبحث عن ذاته الضائعة في بحر اللامعقول: “أهيم وسط طرقات..حقيقة الوجود تؤرقني، أتوه بين طلاسم الأشياء، أتلمس قول الشعراء: أحلام اليقظة تؤرقني ..تزداد حيرتي في القرن الواحد والعشرين أرى بحيرة من الدماء قادمة، أتساءل أين المدينة الفاضلة؟؟ص-65 ويمكث  ليسترد أنفاسه بانتظار “عدالة السماء” ويسكن خلايا الكلمة، فتتحول دلالة الجسد/ اللغة /الإنسان من معـــــناه المادي المحسوس إلى جسد متخيل غير مرئي يستشف أبعادا أخرى للإنسان في تمتلاثه الفـــيزيقية واللامرئية، وهم ما يجعل من هذه الصورة التخييلة للجسد ملاذا آمنا لترسيخ رؤى اللاوعي ونسج إطارات هلامية لهــذا الجسد، مما يجعل المعنى الشعري يرتقي إلى خلق تجليات متعددة لبنية القصيدة وتقنية القصة. “في هذا الزمنِ المجنونْ /إمَّا أن تغدو دجّالاً ../أو أن تصبح بئراً من الأحزانْ/لا تفتحْ بابكَ للسمسرة والفساد/كي يبقى فيكَ الإنسان”.. ص-45 وبهذا نحاول الكشف عن مواطن الجمال وعن الدلالات الفنية وما ينبثق عنها من حرارة وحث تحسسها على إدراك ما يتكثف تلك الدلالات من مضامين فكرية، باعتبار الجانب الفني المتمحور حول اللغة وبنائها التركيبي ظاهرا يبطن فكرا، أو أنه بعد أولي يخفي أبعادا أخرى عميقة. وبذلك تبرز قيمة الإبداع، وتبرز من خلالها كل الشحنات الشعرية والطاقات الفكرية والمضامين الإنسانية والأبعاد الصراعية سلبا وإيجابا. قصصه كشعره كدراسته، تجسيد للغة الروح وحوار الوجود، تتعدّد فيهم الدّلالات، وتتشعّب الرموز وتختلط وتتداخل فى تناوش بديع،هي التي تكاد لا تقول أيّ شيء، وهي فى الوقت ذاته تقول كلّ شيء. وبدا في شعره كشاعر سيزيفيّ دائم الحيرة والقلق والعذاب والسائل عن كُنه الحياة وأسرارها وتناقضاتها وغموضها. ومن هنا كانت مدارات  قصائده الغزلية عبارة عن تمظهرات لجدلية العلاقة بين القومية العربية وعلاقة العروبة بالإسلام والهزيمة والنصر بمنطقها الإنساني، وبالتالي فهي أكثر من مجرد غرض شعري في معمار الشعر والقص الخاص بالشاعر، إنما معاً فعل مقاومة  ضد أعداء الوطن والعروبة والإسلام، يحمل عبء استحضار الجانب الإنساني من فعل المقاومة من خلال لغته العربية الباقية بقاء الدّهر لأنها أبدا حيّة وحبلى بمختلف العطاءات، وهي ليست وقفا على حاضر أو ماض أو آت، بل إنّها تطوي المسافات السّرمدية طيّا ، لتضرب فى عمق حياتنا ألأولى وينابيعها البعيدة، لتعايش كلّ عصر وزمان .. الوطنُ في مجموعاته لا يغيبُ، إنما يشرقُ .. ويتجدّدُ  مع كل نسمة هواء!! جداولٌ لا تعرفُ الجفاف  إنها تروي الوطن – الحلم، والإنسان الحالم!! تترجمُ هاجسَ أرضٍ لا تزهرُ زيتوناً وعسلاً فحسب، إنما تلدُ الشهداء والأبطال والأمجاد ومواكب الخلود  في حضرة  السنديان “امرأة لا تعرف الخوف” / فتون / هنادي / سورية .. هي التي أحالت أساطير الأقدمين إلى علم المحدثين، إنها توحيد الجزء فى الكلّ والعكس..كلُّ هذا تُوحي بهِ مجموعات نزار غانم ..!!
أحلام غانم