“أبو العلاء المعري” شاعرُ الفلاسفة وفيلسوفُ الشعراء
إنه أحد أفراد الدهر وشاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء، فخر معرةِ النعمان وسيد أمراء البيان، ذو الفضل الكامل والعلم الشامل، صاحب الرسائل المنثورة التي لم ينسج ناسج على منوالها، ولم يأت بليغ بمثالها”، هذا ما جادت به قريحة الدكتور “مروان البواب” عضو مجمع اللغة العربية في المحاضرة التي قدمها في المجمع، لتأتي محاضرته وكأنها سرد لوقائع حية عاش تفاصيلها “البواب” وهو يصغي إلى ما قاله وكتبه صاحب “رسالة الغفران” بعد أكثر من 965 عاماً من مغادرة أبي العلاء العالم الذي اختصر مروره في الحياة بجملة شهيرة طلب أن تنقش على قبره “هذا ما جناه أبي عليّ وما جنيت على أحد”
حياته
تكمن حياة المعري في شعره، فقد تحدث فيه عن اسمه وكنيته ولقبه وعماه وطريقة تعلمه ولعبه ورحلاته، فهو لم يكن راضياً عن اختيار والده لاسمه أحمد وكنيته أبي العلاء لما يُشعران به من المدح والتعظيم فقد قال في الاسم:
وَأَحْـــــــــمَدُ سَــــــــــــــــمَّانِي كَبيرِي وَقَلَّمَا فَعَلْــــــــتُ سِوى ما أَســــــــتَحِقُّ بِهِ الذَّمَّا
وقال في الكنية:
دُعِــــــــيـــــــــتُ أَبَـــــــــا العَــلاءِ وَذَاكَ مَيْنٌ وَلَكِـــــــــنَّ الصَّـــحِيــــــــــــــحَ أَبـــــــو النُّزُولِ
كانت حياة مليئة بنوائب الدهر، وأولها ذهاب بصره بسبب الجدري وهو في الرابعة من عمره، ورغم ذلك لم يعتبر عماه مصيبة، بل كان يقول: “أنا أحمد الله على العمى كما يحمده غيري على البصر، فقد صنع لي وأحسن بي إذ كفاني رؤية الثُّقلاء والبغضاء”.
وكان يبقي نفسه رَهن المحبسين للزومه بيته وذهاب عينيه، ثم لما أمعن في البحث عن أسرار الحياة، وأنفذ أشعة عقله إلى أعماقها، أضاف إليهما سجناً ثالثاً، وهو حبس الروح في الجسد، فأصبح في ثلاثة سجون فقال:
أَرَانِي في الثَّـــــــــلاثَةِ مِنْ سُـــــــــــجُونِي فَلا تَسْـــــــــــأَلْ عَــــــــــنِ الخَــــــبَرِ النَّبِيثِ
لِفَـــــقْـــــدِيَ نَاظِــــــــــــري وَلُــــــــزُومِ بَيْتِي وَكَـــــــــونِ الــــــرُّوحِ في الجَسَدِ الخَبِيثِ
ولكن الناس لم يرضوا لزومه بيته، فتوسَّلوا إليه بوسائل شتى حتى دخلوا إليه للزيارة والشفاعة وغيرهما، فقبل ذلك منهم وفتح بابه للزائرين والمتعلمين.
صفاته
عبارات موجزة عرض فيها “البواب” مجمل ما قيل في صفاتِ أبي العلاء، وفي صحة اعتقاده فيقول: “كان المعريُّ آية في الذكاء المفرط، وعلاَّمة عصره، أخذ عنه الناس، وسار إليه الطلبة من الآفاق، وكاتبه العلماء وأهل الأقدار، كان متضلعاً من فنون الأدب، وفي الجملة كان من أهل الفضل الوافي، والأدب الباهر، وكان طاهر اللسان واليد والذيل، أُوتي من حصافة العقل، ودقة التفكير، وسعة الخيال، وغزارة القريحة، وفيض الخاطر ما لم يُؤته كثيرٌ من الشعراء والعلماء، وكان حاضر الذهن، وافر العلم، سريعُ الإدراك والفهم.
في الواقع، عاش أبو العلاء عيشة الشَظف والخشونة، وكان صاحب صوم الدهر منذ بلغ ثلاثين عاماً، واقتصر على النبات حتى صار ذلك طبعاً له، ولم يشرب خمراً، وهو يعتقد أنه باب كل بلية، وسم يُودي باللُّب، وأنها لو كانت حلالاً لما شربها، فقال:
لَو كانَتِ الخَمرُ حِلاًّ مَا سَمَحْت بِها لنَفْسِيَ الدَّهْـــرَ لاَ سِـــــــــرًّا وَلا عَلَنَا
كسبه لعلمه
لم يذكر التاريخ الطريقة التي سلكها أبو العلاء في فاتحة تعلمه، ولكن الجائز القريب أن يكون تعلم الهجاء (أي تقطيع اللفظة إلى حروفها، والنطق بهذه الحروف مع حركاتها) بالحروف النافرة، لأنها كانت معروفةً في ذلك العهد، ويؤيد هذا تصويره أشكال بعض الحروف كقوله:
ولاحَ هِلالٌ مِثلُ نُونٍ أجادَها بِمَــــــــاءِ النُّضَـــــارِ الكاتبُ ابنُ هِلال
وكان بحداثته يلعب الشطرنج حيث ذكر رقعة الشطرنج وأسماء قطعه في مواطن من شعره، منها قوله:
أيّها اللاعِبُ الذي فَرَسُ الشِّطْــ رَنْـــــــــجِ هَــــــــــمَّتْ في كَفِّهِ بالصَّهِيلِ
مَــنْ يُبـــــــــــارِيكَ والبَيـَاذِقُ فـــي كَفْـــ ــفَيْكَ يَغْــــــــلِبـْنَ كــــــــــــلَّ رُخِّ وفِيـــــــــــلِ
أسفاره
لم تثبت لأبي العلاء رحلة حقيقة إلا إلى حلب وبغداد، ولم تكونا لطلب العلم، فرحلته إلى بغداد كانت خلال فترة الخلافة الإسلامية ومقر الأشراف وملتقى الأمم من عرب وعجم، ومجمع العلماء والأدباء والرواة والمترجمين، وزهرة الدنيا في حضارتها ونضرتها حيث سمع بوجود خزائن كتب كثيرة فيها، فاشرأبت نفسه إلى زيارة بغداد والاطلاع على ما فيها، عقد النية على ذلك، وعند دخوله بغدادَ كتب قصيدة ذكر فيها أنه أنشأ الرحلة إلى بغدادَ على ناقة، فهو يحثها على السير ويأمرها أن تسرعَ في الليل، فقال:
يا نَاقُ جِدِّي فقدْ أَفْنَتْ أناتُكِ بِي صَبْرِي وعُمْرِي وأَحْلاسِي وأَنْسَاعِي
إذا رأيتِ ظَلامَ الليلِ فانْصَلِتـي وإنْ رأيتِ بَياضَ الصُّبْحِ فانْصــــاعِي
رزقه
لم يكن أبو العلاء من ذوي الأحوال في الدنيا، وإنما خُلف له وقف يحصل له منه في السنة نيف وعشرون ديناراً، يأخذ خادمه نصفه، والباقي يسد به رمقه، ويؤدي حقوق أضيافه وقاصديه، ويجري على كتابه وطلابه. ولذلك كان يشكو قلَّةَ المال حيناً، وينفيه حيناً آخر، فيقول:
قَــــــــد غَـــــــــدا القَـــومُ لِلنُّضَارِ فَنالُو ه وَبِتْنَـــــــا وَمَنْ لَنــــــــــــــــا بِالـــــــــزُّيُوفِ
عفافه وتواضعه وفخره
كان أبو العلاء شديد التواضع، يحب أن يتضاءل ويصغر شأنه لاسيما في علمه وأدبه، وفي أشعاره ألوانُ مختلفة من ذلك، كقوله:
وَلَـــــمْ يَحْــــــــــــبُنِي أَحَـــــــــــدٌ نِعْمَــــــــــةً وَلكِـــــــــنَّ مَولَــــــــــى المَــــــــوالِي حَــــــــبَا
ومن المعروف أن الفخر غرض من أغراض الشعر يتنافس فيه الشعراء، وقلما خلا شعر شاعر مجوِّد منه، ولأبي العلاء قصائد رائعة في الفخر:
ولي مَنْطِقٌ لَمْ يَرضَ لِي كُنْهَ منزِلِي على أنَّني بين السّـــــــــــِمَاكَيْنِ نازِلُ
وأورد “البواب” في محاضرته أن أبا العلاء كان من المكثرين من الصلاة ومن القائمين بالفروض الدينية، وحضَّ في مواطن كثيرة من شعره على الرأفة بالعبيد والخدم والفقير والضعيف واليتيم والأعمى، ففيهم يقول:
إذا كَسَـــــــــرَ العَبْدُ الإنــــــــــاءَ فَعُدَّهُ أَذاةً لَــــــــهُ إنَّ الإنـــــــــــاءَ إلــــــى كَسْرِ
وفاته
عندما توفي أبو العلاء رثاه على قبره أكثر من ثمانين شاعراً، نكتفي بأبيات لأحدهم هو الأمير أبو الفتح الحسن بن أبي حُصَيْنَة المعرِّي:
العِلــــمُ بَعـــــدَ أبِي العَـــــلاء مُضَـــــيَّعُ وَالأرضُ خـــالِيـــةُ الجَـــوانِــبِ بَلْقَعُ
أَوْدَى وقـــدْ مَــــلأَ البـــــلادَ غَـــــرائِبًا تَسْرِي كَما تَسْـــرِي النُّجُومُ الطُلَّعُ
ما كًنْتُ أَعْلَمُ وَهْوَ يُودَعُ في الثَّرَى أنَّ الثَّرَى فِيـــه الكَــــوَاكِـــــبُ تُــــودَعُ
وَعَجــِبْتُ أنْ تَسَـــــعَ المَعَــــرَّةُ قَبْــــــرَه وَيَضيقُ بَطْنُ الأرضِ عَنْهُ الأَوسَعُ
جمان بركات