بين قوسين فساد المواطن!
منذ سنوات دارت رحى المواجهة مع الفساد واحتدمت معارك المساءلة والمحاسبة لتقرع بين الفينة والأخرى طبول الحرب على هذا العدو، ولينشغل الجميع في إشعال شعلة الرقابة الإصلاحية التي كانت “كما القنابل المضيئة في المعارك الحقيقية” تكشف مواقع الخلل والمتربّصين بالمال العام دون أن تتبعها أية إجراءات صارمة لدكّها وإسقاط منظوماتها اللوجستية الدفاعية التي كانت وللأسف بمنأى عن المدى المجدي لتكتيكات المحاسبة وقراراتها الهابطة في أدراج النسيان والإهمال.
ورغم تعدّد جولات الكر والفر والحملات الإعلامية والخطابية الحاشدة ضد الفساد واستمرار المواجهات على ساحة الإصلاح، إلا أن جميع الإمكانات حشدت ووجّهت باتجاه جبهة إصلاح القطاع العام فأسرت مفاهيمها الإصلاحية الشاملة في خانة القطاع الوظيفي فقط، وسجنت ثقافة الإصلاح في قفص الموظف واقتيدت كل عمليات الرقابة بكامل إجراءاتها وقراراتها باتجاه الجهات الحكومية التي جلدت مؤسساتها وإداراتها المختلفة بسياط الإهمال والتقصير والإساءة للمصلحة العامة وللمال العام، ولم يُكتفَ بذلك بل وضع كل مسؤول وحتى كل موظف حكومي في خانة المرتشي والمسيء وبطريقة ممنهجة تم تشويه صورة الوظيفة العامة، وتزعزعت الثقة بالعمل الخدمي الذي انهارت إنجازاته وتساقطت فعاليته في زحمة الانتقادات الدائمة التي تتناول العجز في تأدية المهام واتهام القائمين على العمل بانحراف بوصلة أدائهم ومسؤولياتهم نحو تحقيق المصالح الخاصة، وتفنّن بعضهم في استهداف واصطياد أي إجراء أو خطوة تتخذ من أية جهة، وتتالت الكمائن في ميادين المعيشة والكهرباء والماء والمحروقات وغيرها من القطاعات التي تعرّضت لخسائر كبيرة ولاستهداف مباشر خلال الأزمة، حيث وجّهت لها ضربات موجعة بغية إسقاط قاعدة إمدادها ودعمها المحصّنة ضمن حاضنة “الدولة الأبوية” بكل ما يعنيه هذا المصطلح من معنى.
وبدخول ظروف الأزمة وأحداثها ساحة المواجهة تصدّعت جبهات مواجهة الفساد الاجتماعي والأخلاقي ودحرت القيم فاسحة المجال لتسلل ثقافة الفساد إلى حياة الناس، وبدلاً من مساعدة المؤسسات الخدمية والمساهمة الفعلية في التخفيف من أعبائها وتحمّل المسؤوليات انخرط المواطن بممارساته اليومية وتجاوزاته التي لا تعدّ ولا تحصى في تعزيز الحضور الفج لمظاهر الفساد وتعميق أزماته، فبات يتكلم وينتقد ساعات التقنين الطويلة ويهاجم فساد المؤسسات ويشرعن في الوقت نفسه سرقته واستجراره غير المشروع للكهرباء ويتهرّب من دفع التزاماته، والحال ذاتها بالنسبة للمياه التي يهدرها بطريقة جنونية ويشفطها عبر مضخات (الحرامية) ليحرم غيره منها، وليتسبّب بأزمة مائية يبررها دائماً بفساد مؤسسات ووحدات المياه والعاملين فيها كسبب رئيسي مع النظر بعين الرأفة والرحمة إلى حال الواقع المناخي والمائي.
ومع تمسّك المواطن بفتوى تجريم المؤسسات الحكومية بتهمة الفساد تعدّدت وتنوّعت مخالفات الناس في قطاعات كثيرة وحللت تجاوزاتها وممارساتها غير القانونية واكتسبت صفة الشرعية المطلقة بحكم الظروف الاستثنائية القاهرة، فهل يستمر المجتمع بإصدار الأحكام الغيابية الظالمة بحق العمل المؤسساتي أم يصطفّ الجميع في صف التشاركية والتعاون لمكافحة الفساد بكل أشكاله ومستوياته؟!.
بشير فرزان