بعد حالات تحييد مفاهيمها الإنسانية وتغييب أخلاقياتها وأدبياتها المهنية أحياناً… مهنة الطب.. انزلاق في نفق الإتجار بأوجاع الناس.. وشهوة المال تحيي غريزة الاستغلال وتغيّب الضمير
عندما كان المعلم يسألنا ونحن على مقاعد الدراسة عن طموحاتنا المستقبلية والمهنة التي نتمنى ممارستها في القادم من الأيام كانت إجابات الغالبية منا تنحصر أو تتفق على مهنة الطب في المرتبة الأولى، وهذا يعود للمكانة التي تحظى بها سواء في مجتمعنا أو في مجتمعات أخرى منحت من يحمل لقب الطبيب حضوراً متميزاً واحتراماً شعبياً مستمداً من الدور الإنساني والأخلاقي الذي يقوم به في معالجة المرضى والحفاظ على صحة الناس ولن ننسى هنا أن جعل الطب في مقدمة الرغبات العلمية التي تتطلب معدلات عالية في المفاضلات الجامعية شكل أيضاً عاملاً هاماً في منح هذه المهنة مرتبة متقدمة في سلم التحصيل العلمي وجعلها مفخرة للأهل وميداناً للتنافس الاجتماعي سواء كان ذلك بين العائلات والأسر أو بين الطلاب أنفسهم.
وبالعودة إلى أيام الدراسة وذلك السؤال الذي يخفي الكثير من الحقائق والوقائع المؤلمة التي تتكشف اليوم أسرارها بممارسات البعض من أولئك الراغبين والحالمين بمهنة الطب فليس كل من أجاب على سؤال الأستاذ واختار هذه المهنة كان بدافع إنساني بل كان الكثير من هؤلاء يختارونها لمكاسبها المادية الكبيرة ودخلها المتصاعد دون رقيب أو حسيب وطبعاً هذه الأرباح التي تثير رغبة الأب والأم في أن يكون أبناؤهم في هذا الموقع كانت الحافز الأول وراء طموحات من سمع ورأى حال وواقع معيشة الكثير من الأطباء الذين يتفننون في اصطياد آلام المرضى والمتاجرة بها، وهؤلاء الحالمون الذين نجح بعضهم في تحقيق هذا الهدف تقمصوا دور من كان بالنسبة لهم مثلهم الأعلى في استثمار أوجاع الناس وجني الأرباح.فما هي حال مهنة الطب في هذه الأيام وخاصة في هذه الظروف؟.
انتقادات الحقيقة
رغم اختلاف كلماتها ومصطلحاتها وتفاوت حدة اللهجة والتعبير إلا أن أراء كل من التقيناهم حول مهنة الطب اتفقت بمضمونها السلبي وانتقاداتها اللاذعة بحق بعض الأطباء الذين أساؤوا لهذه المهنة وتنازلوا عن دورهم الحقيقي ومهمتهم الإنسانية لصالح الكسب والربح السريع، وطبعاً هذه الحصيلة كانت خلاصة لأراء المعلمة خولة حمود والمهندسة فاديا سكر و النجار ورد سعيد والعتال فادي شاكر وربة المنزل كوثر الشيخ والضابط أنورمحمد الذين وصفوا بعض الأطباء ومن جميع الاختصاصات بأنهم تجار وسماسرة ولا يملكون الخبرة الطبية فهدفهم يقتصر على قبض أجرة المعاينة والمراجعة كذلك وإن كانت في موعدها، ويبالغون بطلب الصور والتحاليل ومن مراكز اتفقوا عليها مسبقاً مع أصحابها لنيل النسبة، والبعض حتى يعالج مريضه في المشفى العام عليه مراجعة عيادته الخاصة أولاً ودفع المطلوب ليتم تحديد دور له في العام والظفر بسرير، والبعض يقتصر عمله على تحرير التقارير الطبية للطالبين بأثمان تعجيزية للظفر بإجازة مرضية أو لصرفها لدى نقابته أوتقرير حمل لتثبيت زواج (خطيفة) في المحكمة والبعض يجري عمليات إجهاض أو ترميم عذرية والبعض ذيل اسمه بزمالة جمعيات طبية أوروبية وأمريكية بعضها ليس لها وزن علمي على الإطلاق، والزمالة ليست لها علاقة بالكفاءة العلمية والأكاديمية والمهارة المهنية والبعض سمح باستعمال اسمه في ترويج الأدوية أو العقاقير أو مختلف أنواع العلاجات أو لأغراض تجارية.
طلب العدالة
ردة فعل الأطباء على رأي الناس بمهنة الطب حالياً كانت قاسية نوعاً ما وتحمل شيئاً من اللوم والعتب على المجتمع الذي يقاضي جميع الأطباء بأحكام واحدة، فخلال الجلسة التي جمعتنا مع بعضهم علا صوت اعتراضهم على مانقلناه لهم من خلاصة الآراء التي سمعناها حول مهنتهم ومع حضور التشنج وحالة شد الأعصاب كان هناك بين الفينة والأخرى خروج عن سكة الحوار الصحيح لتتصدر حالة التهجم على المهن الأخرى والنقر على سلبياتها، وبعد ذلك يعود الهدوء وتسود أجواء الاعتدال بالطرح والاعتراف بالأخطاء والممارسات التي تتم من قبل بعض الأطباء دون إغفال الجهود الإيجابية للآخرين، حيث اتفقا في النهاية على صيغة دفاعية تقول : مهنتنا مثلها مثل كل المهن في مجتمعنا.. فهل كل القضاة عادلون؟ وهل كل المعلمين بناة حقيقيون؟ وهل كل الصحفيين وجدانيون وشرفاء وأصحاب رسالة؟.
ومن هنا نجد أن تعميم الاتهام وإصدار الأحكام التي تدين كل من يمارس مهنة الطب هو تغييب حقيقي للعدالة ويفتقد للموضوعية، فكما يوجد بيننا من هو جيد هناك أيضاً السيئ والانتهازي، وهذا أمر طبيعي لأن الإنسان ابن بيئته وأسرته ومجتمعه ويتأثر فيها وبها، و في الوسط الطبي من يبحث عن الحالات الإنسانية ليساعد أصحابها و من يعمل بصمت وهدوء دون انتظار المقابل، وهناك من يهمس في أذن مريضه أن يراجعه في عيادته الخاصة وهناك المتمكن والجدير بمهنة الطب واختصاصه وهناك الضعيف الذي يحول مريضه إلى حقل تجارب قبل أن يصل إلى النتيجة المطلوبة هذا إذا وصل. كما ذكروا أيضاً بأنهم جزء من المجتمع السوري ويعيشون تحت وطأة الضغوط المعيشية والحياتية التي يتشاركون بتداعياتها مع مختلف الشرائح والفئات من حيث الالتزامات العائلية المادية المتصاعدة والتي تفرضها ويلات الأزمة من نزوح وغلاء وغيرها.
الحالة المثالية
الحديث مع الدكتور أديب محمود مدير مشفى دمشق “المجتهد” عن مهنة الطب رسم صورة مثالية للطبيب نابضة بالنبل والقداسة وهالة من المثالية التي لم نستطع تقبلها بسهولة أو بالأصح لم نتقبلها كما هي خاصة بحضور مخالفات وممارسات الكثير من الأطباء الذين تناسوا سمو مهنتهم وتخلوا عن أدبياتها وأخلاقياتها في حين رصد كلام الدكتور محمود الحالة المثلى لمهنة الطب حيث مازال يراهن على ارتباط الطب كما هو منذ الأزل بمفاهيم عديدة كالإنسانية والأخلاق و يعيش مع قدسية العمل الطبي الساعي لإسعاد الناس وشفائهم من الأمراض ومنحهم أيضاً سمات الإنسانية وحب الخير والاستعداد والتضحية وبذل الجهد لخدمة الآخرين، والأخلاق والوفاء وعدم القدرة على الإساءة، وأدرج محمود هذه الصفات في سجل مهنة الطب الإنسانية المحترمة التي يمارس الأطباء أدبياتها وأخلاقها بعملهم اليومي على أكمل وجه من منطلق الإنسانية وتقديم الرعاية الطبية للناس.
ووضع د. محمود نفسه، بالإضافة لزملائه، وخاصة في ظل هذه الظروف، في موقع المسؤولية لتحمل أعبائها بكل جد وجدارة، ورفض في الوقت ذاته عدم تقيد الأطباء بنبل المهنة وأخلاقياتها التي يعتز بها، سواء بحسن نية أو بسوء تقدير، ليؤكد في نهاية حديثه على أن كل من يعمل بعكس ذلك من الأطباء ستفرض بحقه عقوبات من النقابة والوزارة، وحتى من المجتمع، ولكن ذلك مشروط بتقديم شكوى من المواطن ضد الطبيب، ويجب أن تكون موثقة.
دفاع مستميت.. ولكن
الاعتراف بالدور الكبير والجهود التي يمكن وصفها بالجليلة التي قام بها الأطباء لا يقع ضمن خانة المجاملة أو تزييف الحقائق، بل هو حالة من رد الجميل لهم، وهي حالة جماعية في مجتمعنا، وكانت أيضاً قاسماً مشتركاً بين أفكارنا وآرائنا حول مهنة الطب والأطباء، وبين أفكار الدكتور محمود الذي استعرضناها بالفقرة السابقة ود. عبد القادر الحسن نقيب الأطباء الذي أصر أن مهنة الطب مازالت وستبقى مهنة إنسانية، وهدف الطبيب الأول والأخير هو صحة الإنسان ورعايته وتقديم الخدمة الطبية على أكمل وجه وفي كل زمان ومكان.
ويبدو أن مقاطعتنا لكلام الدكتور الحسن شكلت حالة استفزازية خلال الحوار معه، خاصة أنها تناولت ممارسات بعض الأطباء الذين أداروا مشافي ميدانية ورافقوا المسلحين الإرهابيين المرتزقة لعلاجهم أو أولئك الذين شكلوا مافيا للإتجار بالأعضاء البشرية ، ونقلها خارج الوطن، ومن لبى نداء دول الخليج بحجة الحاجة لاختصاصه وبعقود مغرية، فساهموا في تفريغ سورية من كوادرها في وقت كان الوطن بأمس الحاجة إليهم.
أما رد الدكتور الحسن على ماقلناه حول هؤلاء الأطباء، فكان مشحوناً بالتأكيد على أن مهنة الطب مهنة متميزة في سورية، وقد أثبت الأطباء خلال هذه الأزمة التي عصفت بالوطن أنهم جنود حقيقيون، يقفون جنباً إلى جنب مع الجندي المقاتل للدفاع عن وطنه وحماية أرضه وتضميد جراح المقاتلين ومعالجة أمراضهم والحفاظ على صحة المواطنين في كافة المواقع، ليشيد بعد ذلك بالتزامهم شبه المطلق بالأجور الطبية، حيث لم يتم رفع الأجور، كاشفاً عن حقيقة أن نسبة كبيرة من الأطباء لاتتقاضى الأجور المقررة من وزارة الصحة لصالح المواطن، ولكنه في الوقت ذاته لم ينكر وجود بعض الشواذ في كل مهنة، وهؤلاء يتعرضون للمساءلة القانونية والمسلكية.
الصحة بخير
ما سمعناه، وما رأيناه خلال جولاتنا، ولقاءاتنا المختلفة، سواء مع الناس أو مع الأطباء، بمن هم في مواقع المسؤولية، كان كافياً لمنحنا القدرة على تفنيد إجابات الدكتور أحمد نصير عبد الرحمن خليفاوي، معاون وزير الصحة، ومنحها الموضوعية، والمصداقية بنسبة كبيرة، فقد كان رأيه نابضاً بالحقائق، والوقائع التي نعيش تفاصيلها على مدار الساعة، ولكن ذلك لا يلغي تحفظنا على تصرفات، وممارسات بعض الأطباء، وإجراءات بعض المشافي من حيث الخروج عن أدبيات، وأخلاقيات المهنة!.
وطبعاً حديث خليفاوي، حسب ما لمسناه، لم يكن من باب موقعه المسؤول في وزارة الصحة، بل من باب المسؤولية الوطنية، والإنسانية، والاجتماعية، فهو يصر على أن الوضع الصحي السوري بخير إذا ما تم الأخذ بعين الاعتبار ظروف الأزمة، والحصار الجائر على بلدنا من جهة، وما يعانيه الأطباء من ضغوطات على مستوى العمل، والمستوى الاقتصادي من جهة أخرى، وهنا يؤكد على أن العمل الطبي لم ينحرف عن بوصلته الإنسانية، وسمو غاياته الطبية، حيث لم يتم رفع أسعار المعاينات بما يتناسب مع الزيادات العامة في الأسعار، لافتاً إلى أنه لا يتم تطبيق أية زيادة إلا بعد دراستها، وتعديلها بالتعاون مع النقابات الطبية المهنية المختصة، أما بالنسبة لارتفاع أجور العمليات الجراحية، فقد أعاده خليفاوي إلى ارتفاع أسعار المستلزمات الطبية نتيجة الحظر الظالم على الوطن، وارتفاع سعر صرف العملات الأجنبية، وفيما يتعلق بالإسعاف، لم يتردد في التأكيد على أنه، ورغم كل الظروف، يقدم إلى الجميع مجاناً في المشافي العامة، ومشافي الهيئات العامة التابعة لوزارة الصحة، وفي الحالات المنقذة للحياة في المشافي الخاصة.
وقبل أن ينهي د. الحسن إجاباته التي دارت في فلك الإيجابية، والمثالية المطلقة، تدارك الموقف ليعرّج في حديثه على رصد بعض الحالات التي لا تلتزم بأخلاق المهنة، والقوانين الناظمة لها، والتي تتعامل معها الوزارة وفق الأصول القانونية، ولم ينكر وجود عدد من الشكاوى التي تتم معالجتها أصولاً بما يحقق العدالة، وينصف كلا الطرفين: المواطن الذي يتقدم بشكوى، والطبيب الذي من حقه الدفاع عن نفسه، وإثبات عدم مسؤوليته وبراءته.
أخلاقيات المهنة
سلوك الأطباء في ممارسة مهنة الطب تحكمه أخلاقيات المهنة التي لا تفرضها القوانين، بل هي موجودة منذ آلاف السنين، والتي لا تختلف في جميع أنحاء العالم، وهي تفرض قيوداً وواجبات على الطبيب أكثر من القيود القانونية الحكومية التي لا تخرج عن مسارها المسلكي الاجتماعي الذي يحتم على الطبيب من خلال الثقة الممنوحة له من قبل المرضى أن يمارس مهنته الإنسانية بكل أمانة ومسؤولية، والالتزام بأدبيات وأخلاقيات المهنة مهما كانت الظروف والضغوط التي يعمل بها الطبيب، ويجب أن تبقى عيادات الأطباء بمنأى عن الاستغلال والمتاجرة بأوجاع الناس مهما اشتدت الأعباء المادية والمعيشية، وبالمحصلة يبقى الرهان على الضمير الذي يحصّن هذه المهنة من مخاطر الانزلاق في نفق الإتجار بالصحة، والربح السريع.
عارف العلي