“ذات شفق” متتاليات عشقية خارجة عن الزمن
“نكتب/نغني/نرسم/نلحّن لشخص/ شخص واقعي في البداية/ ثم يأخذ في التماهي مع المطلق/ ” أنسي الحاج”
هذه المفردات التي وردت في مقدمة قصة “3 بيلسانات” تختزل مضمون متتاليات عشقية انسدلت على صفحات المجموعة القصصية “ذات شفق” للكاتب أيمن الحسن التي ناقشت فلسفة الحب وتناولت صوراً مختلفة لعوالم العشق الذي نحتاج إليه ليخلصنا – كما قال- مما نعانيه الآن حيث بدأ السواد يحتل القسم المضيء من أرواحنا، وقد جاءت المجموعة على شكل تداعيات سردية خرجت عن إطار القصة التقليدية لتجمع بين اللغة الشعرية والأزمنة المتعددة، لاسيما أن الكاتب الحسن اتسم بالبحث عن مداخل جديدة للمزج بين الفنون الأدبية خاصة أنه مولع بالتجريب والجنوح نحو الحداثة السردية الممهورة بلغة شعرية مفعمة بالرومانسية وبمفردات ثرّة وعبارات بلاغية موحية بالمشاعر الوجدانية، فنثر أجمل الكلمات على سياج أرواحنا، وجعلنا نعتقد أننا نقرأ شعراً منثوراً على أزمنة مفتوحة منسابة مع الزمن توحي بأوراق روائية لحكايات عشق بقيت حبيسة الذات رغم انقضاء زمنها، خيم على المجموعة صوت السارد الذي أخذ دوره الكاتب باستخدامه ضمير المتكلم بصورة أساسية وتقمصه صوت الآخرين أيضاً بضمير الغائب، والأمر اللافت إقحامه نصوصاً مفتوحة داخل السرد كنوع من التداخل على سبيل المثال أحد النصوص التي وردت في قصة “سطور من مطر”
“تمرحين في دمي/أيقونة اشتهاء/أهزوجة من بهاء/هكذا تعودت تغيبين/وتعودتُ تذكرك كل حين”.
إضافة إلى لغته الشعرية أفرد مساحة كبيرة لوصف لقاءات العشاق وترجمة أحاسيسهم النابضة بالوجع والأنين وبنظراتهم الولهى، وما نلمحه في المجموعة ثقافة الكاتب التي وظّفها ضمن سياق المتن الحكائي الذي أخذ في أغلب القصص مساراً واحداً ،فجاء على ذكر رباعيات الخيام وطوق الحمامة ونصوص بيكت وذكر أيضاً الإصدارات المعاصرة مثل عابر سرير، كما أورد مقتطفات من أقوال المشاهير في مقدمة القصص تقترب بمعناها من المضمون العام لها كقول ماركيز في مقدمة قصة “وردة الطفولة الحمراء”: “سأثبت لكل البشر أنهم مخطئون لو ظنوا أنهم يتوقفون عن الحب عندما يتقدمون في السن بينما هم في الحقيقة لايتقدمون في السن إلا عندما يتوقفون عن الحب” ولم يكن صوت فيروز “بعدهن بيبقوا ع البال” بعيداً عن أجواء المجموعة لنصل في النهاية إلى مدوّنة عشق في زمن الحرب وتذكرنا بقول الشاعر العربي يوسف الخطيب “لم يتبقَ لنا سوى الحب”.
ومن قصص المجموعة “ظل القمر” التي تطرق فيها بجرأة إلى الحب المؤلم الذي يجمع بين علاقة مثلثة الأطراف الحبيبة والزوج والزوجة لتدفع الثمن الحبيبة التي تبقى في الظل متمسكة بخطوط الحب الخفي ،ودخل من خلالها الكاتب إلى عالم الأدب ومتاهات الأحرف والمراوحة بين الخيال والواقع عبْر قصة كاتب يقرأ لمحبوبته كل ما يكتب ويسير معها في زقاق العشاق في مدينة الياسمين ،وفيها يقترب من يوميات الأزمة بشكل مباشر فيسرد وقائع أزيز الرصاص ودوي المدافع وأوراق النعوات التي انتثرت في كل مكان والخيبات التي انعكست على سلوكياتنا ،ليمضي منها إلى حالة الانتظار التي تعيشها الحبيبة انتظار لقائه ورسائله وصوته “كيف أنسى أنك تركتني على قارعة الانتظار وحدي امرأة من فراغ أيها الرجل السراب” ص 66. وفي مناح أخرى تطرق إلى جدلية الموت والحياة وتعاقب الليل والنهار كما في قصة “حياة جديدة” التي تخيل فيها الكاتب زمن الموت من خلال بوح رجل لجزئيات أحداث موته عبر استرجاعه شريط عمره ويتوقف عند أشياء لم يكن يعرها اهتماماً في حياته “أردتُ أن أعود إليها أعوّضها جفاف مهجتي في الآونة الأخيرة ونقمتُ على نفسي أنني ميت الآن لاحول لي ولا قوة” ص 173، وحضرت عين الناقد لبعض السلبيات الموجودة في مجتمعنا والتي شجع على انتشارها بعض المتنفذين لتحقيق مآربهم ومنافعهم الخاصة كما في قصة “النير” وفي قصة “نصفه الأبيض” شهد المقهى الشعبي حكاية رجل اعتلى منصباً هاماً وحينما أحيل إلى التقاعد استغنى عن حراسه الكثيرين ولم تعد تتبعه السيارة الفارهة السوداء مثل ظله ،ليتكيف مع واقعه الجديد ويعيش الألق الحقيقي لسورية للوطن من خلال ديوان شعره القادم.”سألته عن موضوع ديوانه القادم قال: “سورية ثم أردف: هيهات أن نرتوي منها: إنها أمي والعروبة موطني” ص 102 ،وفي قصة “أنشوطة الصمت” يعود إلى تاريخ دمشق الحديث وإلى نضال الرفاق الذين عانوا من الاعتقال والتعذيب لتحقيق مبادئهم ولنحيا بعيداً عن الظلم، فوصف يوميات سجين لايعرف الليل من النهار ويعيش عزلة خانقة ينتظر فجر الحرية لايؤنس وحدته إلا الحارس “من خلال الأدبيات الحزبية قرأ الكثير عن طريق المقاومة داخل السجن فوجد أكثرها فعالية أن تعيش وأنت تتعرض للتعذيب لحظة الانتصار مع إشراقة الغد المنشود” ص 107.
وتبقى قراءة ذات شفق أجمل من كل ما يكتب عنها وما يزيد من جماليتها النهايات المفتوحة التي تشرك القارئ في التفكير بأجوائها وبمصير شخوصها ،وتبقى أيضاً إضافة جديدة لتميّز أيمن الحسن.
ملده شويكاني