حسين هاشم يضفر قصيدته بأنامل الطبيعة
أغلق الباب ومضى على عكاز الرحيل، ترك “بدايات متأخرة جداً” للأصدقاء الذين لوحوا له بالوفاء، بعد أن احتجب عن الضوء وانكفأ عن الإعلام، خشي على ضياع قصيدته في الزحام، فأسرج الليل وامتطاه مبتعداً عن ضجيج المدن نحو قريته الصغيرة “فريتان”. ظِلُ حزنه ينتقل بين تفاصيل شعره ومفردات الألم تتدلى من أثداء الأمل، الألم الذي تحطم عليه عناد القصيدة، مازجاً عناصر الطبيعة على ورقته البيضاء في لوحة تأخذ بيد الخيال نحو خصب الجمال. مفردة بسيطة في صور مركبة تدهشك في صياغتها: /أجرّ شجرة العناد من شعر الغيمة/ أستعين بالأوكسجين المعلب/ وأشعل لفافة أخرى./وأبتسم/. بتلقائية أسلوبه وعفوية انفعالاته وحدتها تولد إناث القصائد، ليملأ مروج النهارات بنجوم مضيئة فوق كوخ الشعر.
في مجموعته الأخيرة التي لم يشهد ولادتها يبوح حسين هاشم بالكثير من الوجع الذي لم ينقطع في مجموعاته السبع السابقة، هو وجع موشح بالأمل على الرغم من مضي قطار العمر نحو الشيخوخة: /ينهض الصباح متثاقلاً، مثلي/ أنا المتكئ على ما تبقى من عكاز الروح، حالماً بكذبتنا الصغيرة/ عن القدوم المهيب لجمهرة النور./
يرى في الرحيل ولادة جديدة، زرع بذرة الجسد في تراب المغادرة، لتنهض النهارات المستظلة بفيء شعره كأنها تداعيات جديدة لنهار آخر، انتظر الريح لتنفخ في ناره فيتقد المعنى: /في التراب كلام، وفي البذرة النائمة ألف وعد/ وفي الريح خوف، وفيها بقايا كلام قديم./ وفي النار بوح، بدفء..سيأتي، وفيها رماد/.
بكل هذا النشيج يغسل روحه الهائمة في مفازات البكاء لتبتل الورقة البيضاء بماء القصيدة، فيجمع دمعه في “مقاطع من بكاء الروح” القصيدة المليئة بالشجن وبعض التشاؤم ليقدمها على طبق الطبيعة بتناغم لطيف: /في السماء، غيمة، تتلفت خائفة وعلى مهل تنحني/العصافير تترك أغصانها/ وتغادر مذعورة، والفضاء ثقيل، وأرصفة العشق مهجورة، والندى قبضة من غبار/.
أما الأنثى في قصيدة هاشم، فهي صوت ترتله الطبيعة، تتألم بحرقة الماضي والبحث عن الحضور، هي النسيم الذي يلملم غبار الطلع عن فم الأغصان في صدى النداء: /ومن صوتها أنّ النسيم إذا سرى إلى يابس الأغصان ينتحب القصب، فيجرح روحاً بالأغاني، نداؤها/ على ريش طير الروح: تبكي، ولا سبب/.
وبين الأنثى والمدينة ساقية من الكلمات تشق صحاري الحنين وينبت على حافتيها عشب الحب:
/ أيتها المدائن المحاصرة..أضمك وأرحل في السحابة الهاربة من البحر..إلى صحاريّ المثقلة بالحنين إلى وجهها، حيث ينتشي الرمل بالندى كغزال تائه في البرية/.
حسين هاشم لم يستسلم للخوف بل فك عرى الأحلام ليكشف عن صدر الأماني، مانحاً روحه شيئاً من زيف الهدوء لكن قصيدته تبتسم في وجه قارئها لتمضي به نحو الينابيع الأولى:/عندما يحاصرني الخوف..أستند إلى جدار الكلام وأشبك يدي بيد القصيدة، وأغني البلاد الجميلة جداً، البلاد قاسية، الذكريات الأغاني، الخوف./ وأنا تأخذني الوحدة إلى الينابيع الأولى، فأسكن الطمأنينة الكاذبة، مقامراً بروحي/.
اعتماد الشاعر على حقل مفردات واحد من وحي الطبيعة تكرر بعضها لكنه حاول تعداد الدلالات، مبتكراً صوراً جديدة من رؤية مختلفة. بقي الحزن السمة العامة التي غلفت شعره، وبقي رحيله الحزن الذي أصاب الشعر، بشهادة الكثير من أصدقائه الشعراء والأدباء.
“بدايات متأخرة جداً” مجموعة شعرية تقع في 60 صفحة من القطع المتوسط، طبعها أصدقاؤه بعد رحيله في مطبعة اليازجي، الغلاف والرسوم الداخلية للفنان إسماعيل نصرة. وحسين هاشم من مواليد قرية فريتان منطقة السلمية 1946. يحمل أهلية التعليم الابتدائي، نشر قصائده الأولى في الصحف والمجلات السورية، عضو جمعية الشعر في اتحاد الكتاب العرب. توفي في 10/12/2008. له عدة مجموعات شعرية منها: مواجهات خاسرة جداً- حقيبة الغياب-غبش، ومجموعة قصصية للأطفال بعنوان: عصفوران وقصص أخرى للأطفال.
خضر مجر