السادس من تشرين .. تشرين السوريين المجيد كل يوم

قليلا يا صاحبي وسنبدأ بردم هذه الحفرة، سنقتلع عيني ذلك الوحش ونرمي بجسده للكلاب. كم الساعة معك الآن؟
قال الجندي لرفيق سلاحه وهما ينصتان لراديو يبث اغان عاطفية.
إنها الواحدة وخمس وخمسون دقيقة .
يا صاحبي هلا ائتمنتك على وصية؟
طبعا يا صاحبي.
إن كتب الله لي الشهادة قبل أن نحرر ارضنا، اوصيك بأغلى ما لديك، أن تذهب لتخبرني عندما نحررها وتثلج تربتي بهذا النبأ الكريم.
بعد عام وقف رجل في مدخل قرية بعيدة، يسأل عن قبر صديقه.. وقف وقرأ الفاتحة.. انحنى فوق القبر قبّل ترابه ووضع ساعة لا تزال عقاربها تدور للأمام رغم أن زجاجها تهشم قيلا، وهمهم ببضع كلمات قبل ان يمضي وحرارة أواخر الصيف تركت على خده سربا من الدموع النقية.
6 تشرين عام 1973، الساعة الثانية ظهرا، إنها فيروز سيدة الصباح، تفتتح صباحا جديدا على جبهة الجولان، “خبطة قدمكم عالارض هدارة”، حماة عريننا الازرق، يقصفون مواقع العدو الاسرائيلي ويدكون احصنته، بينما القوات البرية السورية تمخر عباب الجولان مخترقة خط آلون الدفاعي وصولاً إلى مشارف بحيرة طبرية مكبدة قوات العدو الإسرائيلي خسائر فادحة في العتاد وفي الجنود، ممرغة انف الجندي الاسرائيلي في الوحل، وسيشاهد العالم بأسره مذهولا، أعظم عملية انزال جوي على ارتفاع شاهق في التاريخ نفذتها القوات الخاصة السورية في حرب تشرين المجيدة على مرصد جبل الشيخ والتي اسفرت عن تحريره ومنع لواء جولاني وكتائب النخبة الاسرائيلية من الاستيلاء عليه لفترة طويلة، وقتل الجنود الاسرائيليين في اشتباكات بالسلاح الابيض وأسر عدد منهم وتحطيم أسطورة لواء جولاني الاسرائيلي لأول مرة في الصراع العربي الاسرائيلي!
الجيش الذي لا يقهر، هاهو يتساقط كالذباب، وبقايا طائراته يلهو بها اطفال سورية.
هي حرب تشرين التحريرية التي قادها القائد الخالد حافظ الاسد ورجال الجيش العربي السوري الابطال رجال سورية كل سورية، لم يتخلف عن ركب العز هذا أحد، جميع القلوب رنت إلى حيث يسطع المجد، جميع الجباه شامخة، والبنادق تعرف وجهة رصاصها تماما، إنه قلب العدو.
اليوم وبعد 41 عاما على ذكرى ذلك اليوم الذي اوصى رجل فيه صاحبه قبل خمس دقائق من القيامة التي انار دروبها رجال سورية ونساءها وأطفالها، يعود ذلك اليوم من الذكرى، يصبح حيا وروحه تصطخب بين المدن السورية وقراها وبيوتها، استقبلته نساء سورية وأطفالها، استغرب الضيف من خلو البيت من الرجال، رأى صورا لرجال مبتسمين معلقة على الحيطان ووشاح اسود على اكتافها، وشاهد العلم الذي تباهى فيه على اقرانه من الشهور، شامخا في الصورة  إلى جانب الرجل الذي صارت روحه شجرة زيتون.
هو هو لم يتغير: قال في نفسه، عيناه الخضراوان ما تزالان تشعان ألقا، واللون الأحمر لم يزل دافئا وينبض، والأنفة التي تحملها طياته لم تزل شامخة.
امسكت طفلة بيد 6 تشرين وأجلسته في صدر البيت، طارت عصافير من شجرة الليمون التي تطل على النافذة عندما نظر منها.
قليلا وتخرج سيدة البيت مرحبة بالضيف المبارك، صبت له قهوتها السورية المنكهة بهال الفخر قبل أن تولم على شرفه دموعا ندية.
حللت اهلا ووطئت سهلا، اهلا بك.
اهلا بك يا سيدتي، هلا اخبرتني اين اباك زوجك وابنك وأخاك وابن عمك وابن خالك؟ هلا اخبرتني أين من البسوني حلة المجد هذه؟ توقعت أن آتي واجدهم باستقبالي كما كل عام، كل في عمله، العامل في معمله، والمهندس في ارض العمل، والمزارع في حقله والأستاذ في صفه والـ.. صمت، عندما سمع بعض رشقات من رصاص يعرف ازيزه أي معرفة.
لماذا لم تكمل يا سيدي؟ نعم مازال الجنود في ساحات الميدان، مازال من ألبسوك كسوة العيد البهيجة هذه بدمهم، يختالون في ساحات الوغى، يهزمون الموت، قابضين بأيد من حديد ورحمة على كل شبر في هذا الوطن الذي يئن من الجراح.
نعم يا ابنتي ولكني اسمع صوت الرصاص على عتبة بيتك! ماالذي جرى؟ الرجال الذين تركتهم لأصير نجما لامعا بين باقي الايام، تركتهم في الجبهة بعيدا عن بيتك، لن تصدقي البطولات والتضحيات العظيمة التي قدمها اولئك الرجال لتكون الحرب بعيدة عن بيتك وبيت كل السوريين، ماذا حدث؟.
تفضل قهوتك يا سيدي، الحرب التي رسم نصرها أولئك الرجال بدمائهم وقوت قلوبهم، وقدموا ارواحهم كرمى لخاطرها كي لا تأتي للبيت، جاء من فسد قلبه وضميره، بعد ان قايض الشيطان بهما مقابل مجد زائف ودراهم بخسة، ليوقد نارها في بيته اولا ولتنتشر بعدها في بيوت جيرانه على امتداد الوطن، جاء من صيّره المال والحقد عبدا لإسرائيل ولبعض عمائم الحقد العربي الأسود من صبيان امريكا، ليكمل عن العدو الاسرائيلي حربه، بعد ان يئس الصهاينة من حرف بوصلة هذا البلد عن مسارها.
الحرب التي بدأها السوريون لاستعادة حقهم السليب في الارض، لم تزل جبهاتها مشتعلة، خضنا حروبا اخرى مع كيان الاحتلال، حررنا جنوب لبنان، وضربنا العدو في عقر داره التي شيدها على الارض التي سرقها، ارجعنا جثث القتلى من الصهاينة محملة على ظهورها عام 2006، قهرنا تآمر بني الجلدة مع العدو علينا، ودقينا عنق العنقاء في  2008، وعندما ادرك كل اعدائنا استحالة ان يقدروا على مواجهتنا وجهاً لوجه، عملوا بكل طاقتهم لنقل المعركة الى الداخل، وهاهم رجالنا كما تعرفهم، لا يديرون للحق ظهرا، ولا يأمنون للعدو غدرا.
هاهم في عيد ميلادك الـ 41، يشعلون لنصرك ارواحهم شمعا، ويقدمون قلوبهم العامرة بالحب والوفاء، هدايا فرحهم بيناعتك الدائمة.
تعال العام القادم لا تنسى زيارتنا، لا تحزن يا صديقنا الطيب، فكل التواريخ تزينت بانتصارات مجيدة يصنعها السوريون جمعيا على قلب رجل واحد، ستبقى لك ابد الدهر مكانتك الخالدة في قلوبنا، فبك ومنك وفيك بدأنا طريقا لن نؤوب منه إلا وكل حبة تراب سورية مكحلة عيونها بخضرة هذه العلم، بعد أن سقيناها من دمائنا، ليبقى الأحمر فيه دافئا ومستعدا في كل لحظة لاستقبال ارواح سورّية جديدة تغفو بين طيات المجد.
لوَّح 6 تشرين بيده وهو خارج من باب البيت، وغاب رويدا رويدا ليسلم على اصحابه القدامى والجدد في ساحت النصر، وعلى الطريق كانت قطرات من غيوم عينيه تهطل وتترك على دربه خطوات مالحة.

تمام علي بركات