ثقافة

في كتاب “الفيلم التسجيلي التلفزيوني من الفكرة إلى الشاشة” المونـتــاج عمليــة فكريــة إبداعية

كان على وشك إنهاء عمليات المونتاج لسلسلة حلقات تسجيلية بعنوان “رحلة مع الفرات” عندما خطر للسينمائي علي عزيز بلال أن يقوم بوضع كتاب حول هذا المجال المتعب والممتع من مجالات الإعلام التلفزيوني.. وما أن وصلت تداعيات هذا الخاطر إلى ذروتها حتى تبين له أنه لم يكن وليد لحظته بل جاء كرغبة دفينة تعود جذورها إلى بداية علاقته المهنية مع التلفزيون.. كان ذلك منذ خمسة وعشرين عاماً عبر البرنامج التسجيلي الوثائقي “قصة الفن الإسلاميّ” الذي لقي نجاحاً نسبياً آنذاك .والذي جعله يطرح على نفسه مجموعة من الأسئلة  يأتي في مقدمتها: ما الذي يميز الفيلم التسجيلي التلفزيوني عن غيره من قوالب البرامج التلفزيونية الأخرى؟ ولماذا يتم إنتاج الأفلام التسجيلية التلفزيونية في أيامنا؟ ومن هي الجهات التي لها مصلحة مباشرة أو غير مباشرة في إنتاج هذا النوع من القوالب الإعلامية التلفزيونية؟ ومن هم المعنيون حِرَفياً بإنتاج الفيلم التسجيلي ابتداءً من الفكرة وحتى العرض على الشاشة؟ وما هي مراحل إنتاج الفيلم التسجيلي؟
يعترف بلال أنه من هذه الأسئلة تبلور موضوع  كتابه الصادر عن الهيئة العامة  السورية للكتاب تحت عنوان “الفيلم التسجيلي  التليفزيوني: من الفكرة إلى الشاشة” مؤكداً أن  الكتاب يأتي  كمحاولة بحثية يأمل أن تساهم في سد الفجوة المعرفية المتعلقة بإنتاج الأفلام التسجيلية التلفزيونية، وقد حرص أن يكون بسيطاً مباشراً قدر الإمكان من حيث الأسلوب، ومنسجماً متكاملاً قدر الإمكان من حيث التبويب والتصنيف، ومدعوماً بالصور والرسوم من حيث الاستشهاد والبيان والتوضيح، مشيراً كذلك بلال إلى أنه ليس من أهداف هذه الدراسة تتبع نشوء مصطلح “الفيلم التسجيلي” تاريخياً ولا الخوض في مجال التعريفات الإشكالية الكثيرة التي وضِعَت لهذا المصطلح منذ اختراع السينما في فرنسا على أيدي الأخوين لوميير عام 1895، ومع ذلك كان لا بدّ له من التوقف فيه عند أمرين هامين لهما صلة مباشرة بعنوان هذا الكتاب وموضوعه الأساسي: الأول يتصل بمسألة التداخل في المعنى بين مصطلحَي “الفيلم التسجيلي” و”الفيلم الوثائقي” كترجمة لمصطلح إنكليزي، وقد فضّل ألا يتعامل مع هذا التداخل بين المصطلحين من جانبه الإشكالي بل من الجوانب المشتركة التي تسمح بإمكانية إطلاق المصطلحين على مدلول واحد، وبهذا لا يكون ثمة فرق يُذكَر بين الفيلم الوثائقي والفيلم التسجيلي ضمن صفحات هذا الكتاب حصراً .أما الأمر الثاني فيتصل بالتعريف الذي وضعه الناقد والمخرج الإنكليزي جون جريرسون لمفهوم الفيلم التسجيلي السينمائي عام 1926 وهو التعريف الذي يمكن اعتباره أحد الأسس التي تبنى عليها هيكلية هذا الكتاب وذلك من منطلق أنه الأقرب إلى مفهوم الفيلم التسجيلي التلفزيوني في أيامنا .حيث يعرّف جريرسون الفيلم التسجيلي السينمائي اختصاراً بأنه المعالجة الخلاقة للواقع.. وإذا ما سحبنا هذا التعريف على الفيلم التسجيلي التلفزيوني بمفهومه المعاصر كعمل إعلامي إبداعي نجد أنه يقوم على ركيزتين أساسيتين:
الأولى هي الواقع الموضوعي الذي يتجلى في الطبيعة بكل مكوناتها وعوالمها وظواهرها المرئية والمسموعة، الحية والجامدة، الثابتة والمتحركة، ومنها مثلاً الجبال-الوديان-السهول-الرياح-البراكين-البحار-الأنهار-الغابات-النباتات.. إضافة إلى عوالم الحياة البرية والمائية بما فيها من حيوانات وطيور وحشرات.. وعوالم الكائنات الدقيقة غير المرئية بالعين المجردة كالخلايا الحية والجراثيم والفيروسات.
في حين تتجسد الركيزة الثانية من خلال  طريقة معالجة الواقع الموضوعي تلفزيونياً، أي إعادة تنظيم مادة هذا الواقع من خلال التصوير والمونتاج والتعليق والمكساج، وبالتالي تقديم هذه المادة للمتلقي بأسلوب فني إبداعي يعكس رؤية الكاتب والمخرج وبما يحقق الأهداف المنشودة.

الفكرة تنبع من الموضوع
وعن أهداف إنتاج الفيلم التسجيلي  يبين بلال في أحد فصول الكتاب أن فكرة أي فيلم تسجيلي تنبع من الموضوع الذي يسعى إلى تناوله ومعالجته حتى ليمكن القول أن هناك تلازماً قوياً بين الفكرة والموضوع بحيث يصعب التفريق بينهما في الكثير في الحالات، ولا يشك في أن الفكرة والموضوع يرتبطان شكلاً ومضموناً بالغرض أو الهدف الذي يجب أن يصل إليه الفيلم التسجيلي بعد عرضه على الجمهور، وهذا يحتم  تحديد الهدف قبل الشروع بأية خطوة عملية منوهاً إلى أن عملية إنتاج الفيلم التسجيلي تتوزع على تسع خطوات أساسية متتالية ومتكاملة وهي:
وضع التصوّر الأولي للفكرة: وتهدف هذه الخطوة إلى التعريف بفكرة الفيلم الوثاثقي، التسجيلي أو فكرة السلسلة الوثائقية، التسجيلية، وتأتي أهميتها برأي بلال من كونها التأسيس النظري الذي يشرح الفكرة ويبين وظيفتها وأهدافها وطرق معالجتها من حيث الشكل والمضمون، واعتبارها الهيكل الأساسي الذي ستبنى عليه أهم الخطوات اللاحقة، خاصة منها ما يتعلق بكتابة سيناريو التصوير، سيناريو المونتاج .
أما الخطوة الثالثة  فهي معاينة مواقع التصوير ويقصَد هنا الأماكن المطلوب تسجيلها بصرياً وسمعياً باعتبارها عناصر أساسية أو فرعية من موضوع الفيلم، وتختلف أماكن التصوير في الأفلام التسجيلية تبعاً لموضوع الفيلم وبيئته وأهدافه. في حين يعتبر التصوير  الخطوة الرابعة والأهم في خطوات إنتاج الفيلم التسجيلي، باعتبار أن جميع الخطوات السابقة هي تهيئة لها، وجميع الخطوات اللاحقة ستبنى على نتائجها، موضحاً بلال أن  مرحلة التصوير تبدأ من لحظة وصول فريق العمل إلى موقع التصوير مع كامل عدتهم وأدواتهم، مبيناً أن الخطوة الخامسة وهي كتابة سيناريو المونتاج ترتبط بما تم جمعه من معلومات إضافية وما تم تصويره فعلاً من لقطات للمكان ولقاءات مع خبراء أو شهود عيان أو أناس عاديين أو مقدم موضوع الفيلم.. الخ وهو ما يمكن تسميته بسيناريو المونتاج، أما الخطوة السادسة “تسجيل صوت المعلق” ويراعى في كتابة التعليق وقراءته القواعد الأساسية التالية:
عدم ابتعاد معلومة التعليق عن معلومة الصورة واعتماد الجمل القصيرة البسيطة والواضحة لفظاً ومفهوماً مشيراً بلال إلى أن مدلول التعليق مكملاً لمدلول الصورة وليس تكراراً لما توضحه ومؤكداً على أن الخطوة السابعة “المونتاج” هي العملية الفكرية التقنية التي يتم خلالها تركيب الفيلم وفقاً للسيناريو النهائي حسب الشرح الوارد في الخطوة الخامسة، وتحتل خطوة المونتاج المرتبة الثانية بعد التصوير من حيث الأهمية، بل إن هناك من يقدم أهمية المونتاج على أهمية التصوير وذلك من منطلق أن كل ما يتم تصويره لا معنى له فكرياً إلا بعد أن يخضع لهذه العملية، وهذا يعني أن عملية المونتاج ليست عملية تجميع للقطات التي تم تصويرها بل هي عملية فكرية إبداعية قبل أن تكون عملية تقنية فنية.
أمينة عباس