رحلوا.. وما ترجلوا عن صهوة الريح لماذا من نحبهم يفارقون؟ لماذا عشّاق هذه الأرض يغيبون؟ لماذا من بريشتهم لونوا الشمس يرحلون..لماذا؟ لماذا؟ اليوم نودع مبدعاً لون بريشته الوطن، وحضن القمر، ورسم بسمة الأطفال، وأصبح بيارة ياسمين نثرت شذاها على ذرا قاســيون نوراً ونار.
سمعت الخبر، ذهلت.. توقف الزمن اجلالاً.. وهمدت دقات الساعة خشوعاً.. وباتت عقاربها تئن. بريشة سمراء متعبة، وببحة ناي حزين وليل طويل، وقيثارة الفراق تعلن سيمفونية الرحيل عن فراق هالة الإبداع التي لن يخف بريقها، ولن يهدأ نبضها، انه اسطورة الفن والجمال وعبق الإنسانية.
مسكت القلم لأخط ما تبقى من نزف روحي على ورق باتت أسطره حزينة عندما علمت أن ما سنكتب عن وداعه، عن رحيله، هو قلب بحجم الوطن، وروح بلون الألق، عشق ريشته فأبدع رسم الأرض والسماء والوجوه، وما بين السطور والحب والحرب، والانتصار والانكسار، رسم زهوة انتصار حرب تشرين وغفا بعد عدة أيام من ذكرى هذه الحرب وما تزال رائعته على جبين الشمس.. إنه الإنسان والفنان والمبدع والمناضل، حمل ريشته بيد ونبض الوطن بيد.. إنه صرخة اللواء المدويه التي لم يتوقف صداها لتقول إننا عائدون.
نبض الأرض الفنان حيدر يازجي.. عشق سورية حتى الثمالة وغفا أخيراً بين ذرات ترابها غفا مع الشهداء والأطهار، كان سوراً ضد كل من يحاول أن يشوه هذا الوطن وذاكرته، أو يلوث قلبه الصغير، بحبه الكبير غطى أرضه وسماؤه وماؤه وجباله وسهوله وبحره.
هؤلاء من يمثلون ذاكرة الوطن ولون الأرض، ومن يرسمون تاريخ أمة لأنهم نقشوا إبداعهم على جدرانها وأرصفتها وعلى جبين شمسها، وما زالوا بسمة أطفال وريشة فنان، وبندقية جندي، وكلمة حق. رحلوا وما غابوا، ظلوا بين الكلمات والسطور وبوح الألوان ووشماً في تلافيف الذاكرة، وراية على صهوة الريح..
توقفت أحرفى حزينة خجلى وأبى قلمي أن يتابع بوحه واتشحت أحرفي بالسواد وتعمدت بالألم ماذا ستخط؟ وماذا ستكتب؟ وماذا ستفرد من أجنحتها عن علم من أعلامها، وقامة من قاماتها الذين كتبوا الوطن بأحرف من نور، هذه الأحرف التي كانت تملأ الأوراق وتزخرف الأسطر والجرائد والمجلات بفرح وزهو عن قامته التي لا تهدأ ولا تستكين حلّق في مجال الفن وكان لوناً من ألوان لوحته ..كل صالة فنون في سورية تذكره.. وكل ريشة لونت إبداعه.. وكل قلم سطر عن ألقه وعن تاريخه.. وعن ريشته التي أصبحت أسطورة في عالم الفن والجمال.. مبدعنا يحمل في قلبه الصغير المتعب روح الانسانية وفي بسمته رائحة الياسمين وفي روحه طهر شقائق النعمان، وفي أنامله عبق ريشة تحمل جمر الابداع ولون الشمس وضياء القمر وسوسنة من براري الرياحين وجمان الكلمات.
رحلته الأولى كانت عندما سلخوا اللواء عن صدر أمه حمل حنينة وألمه ورحل الى أمه الكبرى سورية حاملاً صرختة المدوية المسكونة في صدره وكبر هنا وترعرع، وفي دمشق سطر تاريخ وطن وعاد وغفا في اللاذقية عند أمواج البحر الهائج في مقبرة اللوائيين.
لماذا من نحبهم يرحلون؟
اشتاقته الأرض التي كانت تعمّد ألوان ريشته فغفا بين ذرات ترابها.. اشتاقته السماء التي كانت تحاكي ألوان عليائه فأصبح حمامة سلام تطير في آفاقها.
رحل ومازالت ريشته ترسمنا وتلون حياتنا تحاكي الوطن بطهر ألوانه.. عاش مبدعنا بجناحي الكلمة التي كتبها الشاعر سليمان العيسى ولونها الذي أسبغه عليها الفنان حيدر يازجي. واليوم بت بلا جناحين وحيدة بلا كلمات بلا ألوان ..أقف على مفترق طريق إلا من شمعة أنطفأ نورها ومن قلب خبى حنينه.. وأرض بلا ورد سكن نبضها عندما لفظ أنفاسه الأخيرة ..وبت في أرض الصقيع بلا سوسنة بلا قمر ولا شمس . وبلا نور
لا أنسى اللحظة التي جمعتني بالكبيرين سليمان العيسى وحيدر يازجي.. كنت أنقّل عيناي بين سحر الكلمة تارة وبين إبداع الريشة تحملها أنامل المبدع حيدر وهو يرسم صورة الشاعر العيسى والده الروحي هذه اللوحة الأعز إلى قلبه التي تمثل نبضه وتسكن روحه وقد جسدت هذا المشهد الجميل في لقاء تلفزيوني جمع المبدعين معاً.
أبدع الفنان اليازجي أجمل اللوحات.. خلد الوطن في ريشته فخلده في سفر الخالدين، لكنه مارحل وما غاب نثر عبق روحه في ألوانه وسحر قلبه بين تراتيل بوحه فكتب في لوحاته القصيدة التي اسمها سوريه فكتبته بين أحرفها ووشمته في ذاكرتها نوراً على جبين الشمس وراية الوطن..
ستذكرك الألوان والريشة وقاسيون وبانوراما حرب تشرين.
الهام سلطان